ثم قال: * (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم) * وفيه مباحث:
البحث الأول: قال الأصمعي هوى يهوي هويا بالفتح إذا سقط من علو إلى سفل. وقيل: * (تهوي إليهم) * تريدهم، وقيل: تسرع إليهم. وقيل: تنحط إليهم وتنحدر إليهم وتنزل، يقال: هوى الحجر من رأس الجبل يهوي إذا انحدر وانصب، وهوى الرجل إذا انحدر من رأس الجبل.
البحث الثاني: أن هذا الدعاء جامع للدين والدنيا. أما الدين فلأنه يدخل فيه ميل الناس إلى الذهاب إلى تلك البلدة بسبب النسك والطاعة لله تعالى. وأما الدنيا: فلأنه يدخل فيه ميل الناس إلى نقل المعاشات إليهم بسبب التجارات، فلأجل هذا الميل يتسع عيشهم، ويكثر طعامهم ولباسهم.
البحث الثالث: كلمة * (من) * في قوله: * (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم) * تفيد التبعيض، والمعنى: فاجعل أفئدة بعض الناس مائلة إليهم. قال مجاهد: لو قال أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم والترك والهند. وقال سعيد بن جبير: لو قال أفئدة الناس، لحجت اليهود والنصارى المجوس، ولكنه قال: * (أفئدة من الناس) * فهم المسلمون.
ثم قال: * (وارزقهم من الثمرات) * وفيه بحثان:
البحث الأول: أنه لم يقل: وارزقهم الثمرات، بل قال: * (وارزقهم من الثمرات) * وذلك يدل على أن المطلوب بالدعاء اتصال بعض الثمرات إليهم.
البحث الثاني: يحتمل أن يكون المراد بإيصال الثمرات إليهم إيصالها إليهم على سبيل التجارات وإنما يكون المراد: عمارة القرى بالقرب منها لتحصيل الثمار منها.
ثم قال: * (لعلهم يشكرون) * وذلك يدل على أن المقصود للعاقل من منافع الدنيا أن يتفرغ لأداء العبادات وإقامة الطاعات، فإن إبراهيم عليه السلام بين أنه إنما طلب تيسير المنافع على أولاده لأجل أن يتفرغوا لإقامة الصلوات وأداء الواجبات.
المطلوب الرابع: قوله: * (ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن) *.
واعلم أنه عليه السلام لما طلب من الله تيسير المنافع لأولاده وتسهيلها عليهم، ذكر أنه لا يعلم عواقب الأحوال ونهايات الأمور في المستقبل، وأنه تعالى هو العالم بها المحيط بأسرارها، فقال: * (ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن) * والمعنى: أنك أعلم بأحوالنا ومصالحنا ومفاسدنا منا، قيل: ما نخفي من الوجد بسبب حصول الفرقة بيني وبين إسماعيل، وما نعلن من البكاء، وقيل: ما نخفي من الحزن المتمكن في القلب وما نعلن يريد ما جرى بينه وبين هاجر حيث قالت له عند الوداع إلى من تكلنا؟