البحث الثالث: قال قوم: إنه تعالى أخرج هذه الثمرات بواسطة هذا الماء المنزل من السماء على سبيل العادة، وذلك لأن في هذا المعنى مصلحة للمكلفين، لأنهم إذا علموا أن هذه المنافع القليلة يجب أن تتحمل في تحصيلها المشاق والمتاعب، فالمنافع العظيمة الدائمة في الدار الآخرة أولى أن تتحمل المشاق في طلبها، وإذا كان المرء يترك الراحة واللذات طلبا لهذه الخيرات الحقيرة، فبأن يترك اللذات الدنيوية ليفوز بثواب الله تعالى ويتخلص عن عقابه أولى. ولهذا السبب لما زال التكليف في الآخرة أنال الله تعالى كل نفس مشتهاها من غير تعب ولا نصب، هذا قول المتكلمين. وقال قوم آخرون: إنه تعالى يحدث الثمار والزروع بواسطة هذا الماء النازل من السماء، والمسألة كلامية محضة، وقد ذكرناه في سورة البقرة.
البحث الرابع: قال أبو مسلم: لفظ * (الثمرات) * يقع في الأغلب على ما يحصل على الأشجار، ويقع أيضا على الزروع والنبات، كقوله تعالى: * (كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده) * (الأنعام: 141).
البحث الخامس: قال تعالى: * (فأخرج به من الثمرات رزقا لكم) * والمراد أنه تعالى إنما أخرج هذه الثمرات لأجل أن تكون رزقا لنا، والمقصود أنه تعالى قصد بتخليق هذه الثمرات إيصال الخير والمنفعة إلى المكلفين، لأن الإحسان لا يكون إحسانا إلا إذا قصد المحسن بفعله إيصال النفع إلى المحسن إليه.
البحث السادس: قال صاحب " الكشاف ": قوله: * (من الثمرات) * بيان للرزق، أي أخرج به رزقا هو ثمرات، ويجوز أن يكون من الثمرات مفعول أخرج ورزقا حال من المفعول أو نصبا على المصدر من أخرج لأنه في معنى رزق، والتقدير: ورزق من الثمرات رزقا لكم.
فأما الحجة الرابعة: وهي قوله: * (وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره) * ونظيره قوله تعالى: * (ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام) * (الشور: 32) ففيها مباحث:
البحث الأول: أن الانتفاع بما ينبت من الأرض إنما يكمل بوجود الفلك الجاري في البحر، وذلك لأنه تعالى خص كل طرف من أطراف الأرض بنوع آخر من أنعمه حتى أن نعمة هذا الطرف إذا نقلت إلى الجانب الآخر من الأرض وبالعكس كثر الربح في التجارات، ثم إن هذا النقل لا يمكن إلا بسفن البر وهي الجمال أو بسفن البحر وهي الفلك المذكور في هذه الآية. فإن قيل: ما معنى وسخر لكم الفلك مع أن تركيب السفينة من أعمال العباد؟
قلنا؛ أما على قولنا إن فعل العبد خلق الله تعالى فلا سؤال، وأما على مذهب المعتزلة فقد أجاب القاضي عنه فقال: لولا أنه تعالى خلق الأشجار الصلبة التي منها يمكن تركيب السفن ولولا خلقه