النعمة إليه، فيكون الاخلاص أكمل، واستغراق القلب في مشاهدة نور الحق أتم، وانقطاعه عما سوى الحق أقوى وأثبت.
المسألة الثانية: الحمد: لفظ مفرد محلى بالألف واللام فيفيد أصل الماهية. إذا ثبت هذا فنقول: قوله * (الحمد لله) * يفيد أن هذه الماهية لله، وذلك يمنع من ثبوت الحمد لغير الله، فهذا يقتضي أن جميع أقسام الحمد والثناء والتعظيم ليس إلا لله سبحانه. فإن قيل: إن شكر المنعم واجب، مثل شكر الأستاذ على تعليمه، وشكر السلطان على عدله، وشكر المحسن على إحسانه، كما قال عليه الصلاة والسلام: " من لم يشكر الناس لم يشكر الله ". قلنا: المحمود والمشكور في الحقيقة ليس إلا الله، وبيانه من وجوه: الأول: صدور الاحسان من العبد يتوقف على حصول داعية الاحسان في قلب العبد، وحصول تلك الداعية في القلب ليس من العبد، وإلا لافتقر في حصولها إلى داعية أخرى ولزم التسلسل، بل حصولها ليس إلا من الله سبحانه فتلك الداعية عند حصولها يجب الفعل، وعند زوالها يمتنع الفعل فيكون المحسن في الحقيقة ليس إلا الله، فيكون المستحق لكل حمد في الحقيقة هو الله تعالى. وثانيها: أن كل من أحسن من المخلوقين إلى الغير، فإنه إنما يقدم على ذلك الإحسان إما لجلب منفعة أو دفع مضرة، أما جلب المنفعة: فإنه يطمع بواسطة ذلك الإحسان بما يصير سببا لحصول السرور في قلبه أو مكافأة بقليل أو كثير في الدنيا أو وجدان ثواب في الآخرة. وأما دفع المضرة، فهو أن الإنسان إذا رأى حيوانا في ضر أو بلية فإنه يرق قلبه عليه، وتلك الرقة ألم مخصوص يحصل في القلب عند مشاهدة وقوع ذلك الحيوان في تلك المضرة فإذا حاول إنقاذ ذلك الحيوان من تلك المضرة زالت تلك الرقة عن القلب وصار فارغ القلب طيب الوقت، فذلك الإحسان كأنه سبب أفاد تخليص القلب عن ألم الرقة الحسية، فثبت أن كل ما سوى الحق فإنه يستفيد بفعل الإحسان إما جلب منفعة أو دفع مضرة، أما الحق سبحانه وتعالى، فإنه يحسن ولا يستفيد منه جلب منفعة ولا دفع مضرة، وكان المحسن الحقيقي ليس إلا الله تعالى، فبهذا السبب كان المستحق لكل أقسام الحمد هو الله، فقال: * (الحمد لله) * وثالثها: أن كل إحسان يقدم عليه أحد من الخلق فالانتفاع به لا يكمل إلا بواسطة إحسان الله، ألا ترى أنه لولا أن الله تعالى خلق أنواع النعمة وإلا لم يقدر الإنسان على إيصال تلك الحنطة والفواكه إلى الغير، وأيضا فلولا أنه سبحانه أعطى الإنسان الحواس الخمس التي بها يمكنه الانتفاع بتلك النعم وإلا لعجز عن الانتفاع بها. ولولا أنه سبحانه أعطاه المزاج الصحي والبنية السليمة وإلا لما أمكنه الانتفاع بها، فثبت أن كل إحسان يصدر عن محسن سوى الله