ترى أن إبليس قال: * (إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم) * (إبراهيم: 22) فلم ينفعه هذا الصدق، وهذا الكلام تصديق من الله تعالى لعيسى في قوله * (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به) * (المائدة: 117). المسألة الثانية: قرأ جمهور القراء * (يوم) * بالرفع، وقرأ نافع بالنصب، واختاره أبو عبيدة. فمن قرأ بالرفع، قال الزجاج: التقدير هذا اليوم يوم منفعة الصادقين، وأما النصب ففيه وجوه: الأول: على أنه ظرف لقال والتقدير: قال الله هذا القول لعيسى يوم ينفع. الثاني: أن يكون التقدير: هذا الصدق واقع يوم ينفع الصادقين صدقهم، ويجوز أن تجعل ظروف الزمان أخبارا عن الأحداث بهذا التأويل كقولك: القتال يوم السبت، والحج يوم عرفة، أي واقع في ذلك اليوم، والثالث: قال الفراء: * (يوم) * أضيف إلى ما ليس باسم فبني على الفتح كما في يومئذ. قال البصريون هذا خطأ لأن الظرف إنما يبنى إذا أضيف إلى المبنى كقول النابغة. على حين عاتبت المشيب على الصبا بنى (حين) لإضافته إلى المبنى وهو الفعل الماضي وكذلك قوله * (يوم لا تملك) * ( الإنفطار: 19) بني لإضافته إلى (لا) وهي مبنية، أما هنا فالإضافة إلى معرب لأن ينفع فعل مستقبل، والفعل المستقبل معرب فالإضافة إليه لا توجب البناء والله أعلم. ثم قال تعالى: * (لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم) *. اعلم أنه تعالى لما أخبر أن صدق الصادقين في الدنيا ينفعهم في القيامة، شرح كيفية ذلك النفع وهو الثواب، وحقيقة الثواب: أنها منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم. فقوله * (لهم جنات تجري من تحتها الأنهار) * إشارة إلى المنفعة الخالصة عن الغموم والهموم، وقوله * (خالدين فيها أبدا) * إشارة إلى الدوام واعتبر هذه الدقيقة، فإنه أينما ذكر الثواب قال: * (خالدين فيها أبدا) * وأينما ذكر عقاب الفساق من أهل الايمان ذكر لفظ الخلود ولم يذكر معه التأبيد، وأما قوله تعالى: * (رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم) * فهو إشارة إلى التعظيم. هذا ظاهر قول المتكلمين، وأما عند أصحاب الأرواح المشرقة بأنوار جلال الله تعالى، فتحت قوله * (رضي الله عنهم ورضوا عنه) * أسرار عجيبة لا تسمح الأقلام بمثلها جعلنا الله من أهلها، وقوله * (ذلك الفوز العظيم) * الجمهور على أن قوله * (ذلك) * عائد إلى جملة ما تقدم من قوله * (لهم جنات تجري) * إلى قوله * (ورضوا عنه) * وعندي أنه يحتمل أن يكون ذلك مختصا بقوله * (رضي الله عنهم ورضوا عنه) * فإنه ثبت عند أرباب الألباب أن جملة الجنة بما فيها بالنسبة إلى رضوان الله كالعدم بالنسبة إلى الوجود، وكيف والجنة مرغوب الشهوة، والرضوان
(١٣٨)