إلى معرفة هذا التقدير إلا بالسمع، فلما لم يوجد الدليل السمعي وجب ألا يجوز الجزم بهذا التقدير.
المسألة الرابعة: قوله تعالى: * (فلن يخلف الله عهده) * يدل على أنه سبحانه وتعالى منزه عن الكذب وعده ووعيده. قال أصحابنا: لأن الكذب صفة نقص، والنقص على الله محال، وقالت المعتزلة: لأنه سبحانه عالم بقبح القبيح وعالم بكونه غنيا عنه، والكذب قبيح لأنه كذب والعالم بقبح القبيح وبكونه غنيا عنه يستحيل أن يفعله، فدل على أن الكذب منه محال، فلهذا قال: * (فلن يخلف الله عهده) *، فإن قيل: العهد هو الوعد وتخصيص الشيء بالذكر يدل على نفي ما عداه، فلما خص الوعد بأنه لا يخلفه علمنا أن الخلف في الوعيد جائز، ثم العقل يطابق ذلك، لأن الخلف في الوعد لؤم وفي الوعيد كرم. قلنا: الدلالة المذكورة قائمة في جميع أنواع الكذب.
المسألة الخامسة: قال الجبائي: دلت الآية على أنه تعالى لم يكن وعد موسى ولا سائر الأنبياء بعده على أنه تعالى يخرج أهل المعاصي والكبائر من النار بعد التكذيب، لأنه لو وعدهم بذلك لما جاز أن ينكر على اليهود هذا القول، وإذا ثبت أنه تعالى ما دلهم على ذلك وثبت أنه تعالى دلهم على وعيد العصاة إذا كان بذلك زجرهم عن الذنوب، فقد وجب أن يكون عذابهم دائما على ما هو قول الوعيدية، وإذا ثبت ذلك في سائر الأمم وجب ثبوته في هذه الأمة، لأن حكمه تعالى في الوعد والوعيد لا يجوز أن يختلف في الأمم، إذ كان قدر المعصية من الجميع لا يختلف، واعلم أن هذا الوجه في نهاية التعسف فنقول: لا نسلم أنه تعالى ما وعد موسى أنه يخرج أهل الكبائر من النار، قوله: لو وعدهم بذلك لما أنكر على اليهود قولهم، قلنا: لم قلت إنه تعالى لو وعدهم ذلك لما أنكر على اليهود ذلك، وما الدليل على هذه الملازمة؟ ثم إنا نبين شرعا أن ذلك غير لازم من وجوه. أحدها: لعل الله تعالى إنما أنكر عليهم لأنهم قللوا أيام العذاب، فإن قولهم: * (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) *، يدل على أيام قليلة جدا، فالله تعالى أنكر عليهم جزمهم بهذه القلة لا أنه تعالى أنكر عليهم انقطاع العذاب. وثانيها: أن المرجئة يقطعون في الجملة بالعفو، فأما في حق الشخص المعين فلا سبيل إلى القطع، فلما حكموا في حق أنفسهم بالتخفيف على سبيل الجزم لا جرم أنكر الله عليهم ذلك. وثالثها: أنهم كانوا كافرين وعندنا عذاب الكافر دائم لا ينقطع، سلمنا أنه تعالى ما وعد موسى عليه السلام أنه يخرج أهل الكبائر من النار، فلم قلت أنه لا يخرجهم من النار؟ بيانه أنه فرق بين أن يقال إنه تعالى ما وعده إخراجهم من النار وبين أن يقال: إنه أخبره أنه لا يخرجهم من النار والأول لا مضرة فيه، فإنه تعالى ربما لم يقل ذلك لموسى إلا أنه سيفعله يوم القيامة، وإنما رد على اليهود وذلك لأنهم جزموا به من غير دليل، فكان يلزمهم أن يتوقفوا فيه وأن لا يقطعوا لا بالنفي ولا بالإثبات، سلمنا أنه تعالى لا يخرج عصاة قوم موسى من النار، فلم قلت: إنه لا يخرج عصاة هذه الأمة من النار، وأما قول الجبائي: لأن حكمه تعالى في الوعد والوعيد لا يجوز أن يختلف في الأمم. فهو تحكم محض، فإن العقاب حق الله تعالى، فله أن يتفضل على البعض بالإسقاط وأن لا يتفضل بذلك على الباقين، فثبت أن هذا الاستدلال