فإن قال قائل: فإن قوله: * (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) * ينبئ عن أن جميع الخلق غير مؤاخذين إلا بما كسبته أنفسهم من ذنب، ولا مثابين إلا بما كسبته من خير.
قيل: إن ذلك كذلك، وغير مؤاخذ العبد بشئ من ذلك إلا بفعل ما نهي عن فعله، أو ترك ما أمر بفعله.
فإن قال: فإذا كان ذلك كذلك، فما معنى وعيد الله عز وجل إيانا على ما أخفته أنفسنا بقوله: * (ويعذب من يشاء) * إن كان * (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) * وما أضمرته قلوبنا وأخفته أنفسنا، من هم بذنب، أو إرادة لمعصية، لم تكتسبه جوارحنا؟ قيل له:
إن الله جل ثناؤه قد وعد المؤمنين أن يعفو لهم عما هو أعظم مما هم به أحدهم من المعاصي فلم يفعله، وهو ما ذكرنا من وعده إياهم العفو عن صغائر ذنوبهم إذا هم اجتنبوا كبائرها، وإنما الوعيد من الله عز وجل بقوله: * (ويعذب من يشاء) * على ما أخفته نفوس الذين كانت أنفسهم تخفي الشك في الله، والمرية في وحدانيته، أو في نبوة نبيه (ص)، وما جاء به من عند الله، أو في المعاد والبعث من المنافقين، على نحو ما قال ابن عباس ومجاهد، ومن قال بمثل قولهما أن تأويل قوله: * (أو تخفوه يحاسبكم به الله) * على الشك واليقين. غير أنا نقول إن المتوعد بقوله: * (ويعذب من يشاء) * هو من كان إخفاء نفسه ما تخفيه الشك والمرية في الله، وفيما يكون الشك فيه بالله كفرا، والموعود الغفران بقوله: * (فيغفر لمن يشاء) * هو الذي أخفى، وما يخفيه الهمة بالتقدم على بعض ما نهاه الله عنه من الأمور التي كان جائزا ابتداء تحليله وإباحته، فحرمه على خلقه جل ثناؤه، أو على ترك بعض ما أمر الله بفعله مما كان جائزا ابتداء إباحة تركه، فأوجب فعله على خلقه. فإن الذي يهم بذلك من المؤمنين إذا هو لم يصحح همه بما يهم به، ويحقق ما أخفته نفسه من ذلك بالتقدم عليه لم يكن مأخوذا، كما روي عن رسول الله (ص) أنه قال: من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه، فهذا الذي وصفنا، هو الذي يحاسب الله به مؤمني عباده ثم لا يعاقبهم عليه.
فأما من كان ما أخفته نفسه شكا في الله وارتيابا في نبوة أنبيائه، فذلك هو الهالك المخلد في النار، الذي أوعده جل ثناؤه العذاب الأليم بقوله: * (ويعذب من يشاء) *.