ثم تشير الآية الثانية إلى الأثر العميق الذي يتركه الإيمان والتقوى - في الحياة الدنيوية للإنسان، فتؤكد أن أهل الكتاب لو طبقوا التوراة والإنجيل وجعلوهما منهاجا لحياتهم وعملوا لكل ما نزل عليهم من ربهم، سواء في الكتب السماوية السابقة أو في القرآن، دون تمييز أو تطرف لغمرتهم النعم الإلهية من السماء والأرض، فتقول الآية: ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم....
وبديهي أن المراد من إقامة التوراة والإنجيل هو اتباعهم لما بقي من التوراة والإنجيل الحقيقيين في أيديهم في ذلك العصر، ولا يعني اتباع ما حرف منهما والذي يمكن معرفته من خلال القرائن.
والمراد بجملة ما أنزل إليهم من ربهم هو كل الكتب السماوية والأحكام الإلهية، لأن هذه الجملة يفهم منها الإطلاق، وهي في الحقيقة إشارة إلى النهي عن خلط العصبيات القومية بالوسائل الدينية الإلهية، فليس المهم كون هذا الكتاب عربيا أو ذلك الكتاب يهوديا، بل المهم هو الأحكام الإلهية الواردة فيهما وفي كل الكتب السماوية، أي أن القرآن أراد أن يطفئ - ما أمكنه ذلك - نار العصبية القومية عند هؤلاء، ويمهد السبيل إلى التغلغل في أعماق نفوسهم وقلوبهم، لذلك فالضمائر الواردة في هذه الآية تعود إلى أهل الكتاب وهي:
(إليهم، من ربهم، من فوقهم، ومن تحت أرجلهم) وما ذلك إلا لكي يترك هؤلاء عنادهم وصلفهم، ولكي لا يتصوروا أن الخضوع والاستسلام أمام القرآن يعني استسلام اليهود للعرب، بل هو استسلام وخضوع لربهم العظيم.
ولا شك أن المراد بإقامة التوراة والإنجيل هو العمل بالمبادئ السماوية الواردة فيهما، لأن جميع المبادئ والتعاليم كما أسلفنا سابقا - التي جاء بها الأنبياء أينما كانوا - واحدة لا فرق بينها غير الفرق بين الكامل والأكمل، ولا يتنافى هذا مع النسخ الذي ورد في بعض الأحكام الواردة في الشريعة اللاحقة