(لم أرد به اليمين) لأنها لا تحمل غيره، وما جزم به هنا من صراحة هذه الألفاظ وأنه إن نوى غير اليمين لم يقبل هو المعروف، لكن ذكرا عند حروف القسم فيما لو قال: والله لأفعلن كذا ونوى غير اليمين أنه يقبل ظاهرا على المذهب وهذا هو المعتمد، ويحمل كلامه هنا أنه لا يقبل منه إرادة غير الله تعالى ظاهرا ولا باطنا، لأن اليمين بذلك لا تحتمل غيره، وإنما قبل منه هنا إرادة غير اليمين بخلاف الطلاق والايلاء والعتاق لتعلق حق غيره به، ولان العادة جرت بإجراء لفظ اليمين بلا قصد، بخلاف هذه الثلاثة فدعواه فيها تخالف الظاهر فلا يقصد، فإن كان ثمة قرينة تدل على قصد اليمين لم يصدق ظاهرا.
فائدة: التورية في الايمان نافعة، والعبرة فيها بنية الحالف إلا إذا استحلفه القاضي بغير الطلاق والعتاق كما سيأتي إن شاء الله تعالى في الدعاوى، وهي وإن كان لا يحنث بها لا يجوز فعلها حيث يبطل بها حق المستحق بالاجماع، فمن التورية أن ينوي باللباس الليل، وبالفراش والبساط الأرض، وبالأوتاد الجبال، وبالسقف والبناء السماء، وبالآخرة آخرة الاسلام، وما ذكرت فلانا: أي ما قطعت ذكره، وما عرفته: ما جعلته عريفا، وما سألته حاجة: أي شجرة صغيرة وما أكلت له دجاجة: أي كبة من غزل، ولا فروجة: أي دراعة ولا في بيتي فرس: أي صغار الإبل، ولا حصير، أي الملك، وما له عندي جارية: أي سفينة، وما عندي كلب: أي مسمار في قائم السيف، وكل هذا يجمعه قوله (ص):
إن في المعاريض لمندوحة من الكذب. وقال عمر رضي الله تعالى عنه: في المعاريض ما يغني المسلم عن الكذب.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما أحب بمعاريض الكلام حمر الوحش. وقد حكى عبد الرحمن ابن أبي ليلى أنه كان له جارية يطؤها سرا من أهله فوطئها ليلة وأراد أن يغتسل وكره أن يعلم أهله، فقال: إن مريم بنت عمران عليها السلام كانت تغتسل في مثل هذه الليلة فلم يبق في منزله أحد إلا اغتسل واغتسل هو معهم، وكانت مريم تغتسل كل ليلة، وكان إبراهيم النخعي قد خط في بيته مسجدا، فإذا جاء من لا يريد دخوله عليه قال للجارية قولي هو في المسجد، وحضر سفيان الثوري مجلس النهدي فحلف له أنه يعود إليه، ثم نهض وترك نعله كالناسي له، ثم رجع من ساعته فأخذه وخرج فلم يره بعدها. (وما انصرف إليه سبحانه) وتعالى (عند الاطلاق) ويصرف إلى غيره مقيدا (كالرحيم والخالق والرازق) والجبار والمتكبر والقاهر والقادر والحق (والرب تنعقد به اليمين) سواء أقصده سبحانه وتعالى أم أطلق، لأن الاطلاق ينصرف إليه تعالى.
فائدة: الألف واللام في هذه الصفات ونحوها ليست للعموم ولا للعهد بل للكمال. قال سيبويه: تكون لام التعريف للكمال تقول: زيد الرجل، تريد الكامل في الرجولية، وكذا هي في أسماء الله تعالى، فإذا قلت الرحمن: أي الكامل في معنى الرحمة، والعليم: أي الكامل في معنى العلم، وكذا تتمة الأسماء. (إلا أن يريد) الحالف (غيره) تعالى فيقبل ولا يكون يمينا، لأنه قد يستعمل في حق غيره مقيدا: كرحيم القلب وخالق الكذب ورازق الجيش. قال تعالى: * (وتخلقون إفكا) * وقال: * (فارزقوهم منه) * ورب الإبل (وما استعمل فيه) تعالى (وفي غيره) استعماله (سواء كالشئ والموجود) وكالسميع والبصير (والعالم) بكسر اللام (والحي) والغني والكريم (ليس بيمين إلا بنية) لأنها لما استعملت فيه، وفي غيره سواء أشبهت كنايات الطلاق، فإن نواه تعالى فهو يمين، بخلاف ما إذا أراد بها غيره أو أطلق (والصفة) الذاتية (كوعظمة الله) تعالى (وعزته وكبريائه وكلامه وعلمه وقدرته ومشيئته يمين) بشرط أن يأتي بالظاهر بدل المضمر في الستة لأنها صفات لم يزل سبحانه وتعالى موصوفا بها فأشبهت الأسماء المختصة به، وهذه الأربعة الأخيرة من الصفات التي جملتها عند الأشاعرة ثمانية مجموعة في قول الناظم:
حياة وعلم قدرة وإرادة كلام وإبصار وسمع مع البقا