باب الهدنة وتسمى الموادعة والمعاهدة والمسالمة والمهادنة، وهي لغة المصالحة. وشرعا مصالحة أهل الحرب على ترك القتال مدة معينة بعوض أو غيره سواء فيهم من يقر على دينه ومن لم يقر، وهي مشتقة من الهدون وهو السكون والأصل فيها قبل الاجماع قوله تعالى * (براءة من الله ورسوله) * الآية. وقوله تعالى * (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) * ومهادنته (ص) قريشا عام الحديبية كما رواه الشيخان. وهي جائزة لا واجبة بأربعة شروط: الأول ما أشار إليه بقوله (عقدها لكفار أقليم) كالروم والهند (يختص بالإمام أو نائبه فيها) أي عقد الهدنة لما فيها من الخطر. والإمام أو نائبه هو الذي يتولى الأمور العظام، وهو أعرف بالمصالح من الآحاد وأقدر على التدبير منهم كما قال الماوردي.
ولا يقوم إمام البغاة مقام إمام الهدنة في ذلك.
تنبيه: قد علم من منع عقدها من الآحاد لأهل إقليم منع عقدها للكفار مطلقا من باب أولى. وقد صرح في المحرر بالامرين جميعا، فإن تعاطاها الآحاد لم يصح لكن لا يغتالون بل يبلغون المأمن لأنهم دخلوا على اعتقاد صحة أمانه. (و) عقدها (لبلدة) أي كفارها (يجوز لوالي الإقليم) لتلك البلدة كما في الروضة وأصلها لتفويض مصلحة الإقليم إليه ولاطلاعه على مصالحه، ولان الحاجة قد تدعو إلى ذلك والمفسدة فيه قليلة لو أخطأ. وأفهم قوله (أيضا) أنه يجوز عقد الهدنة لكفار بلدة من الإمام ونائبه أيضا. قال الرافعي: والقصور على بلدة واحدة في ذلك الإقليم لا معنى له فإن الحاجة قد تدعو إلى مهادنة أهل بلاد في ذلك الإقليم وتكون المصلحة في ذلك.
تنبيه: قد يفهم من تعبير المصنف بعقدها اعتبار الايجاب والقبول، لكن على كيفية ما سبق في عقد الأمان، وقضية كلامه كغيره: أن والي الإقليم لا يهادن جميع أهل الإقليم، وبه صرح الفوراني، وهو أظهر من قول العمراني أن له ذلك وقضية كلامه أيضا أنه لا يشترط إذن الإمام للوالي في ذلك، وهو قضية كلام الرافعي، لكن نص الشافعي على اعتبار إذنه وهو الظاهر، والإقليم - بكسر الهمزة - أحد الأقاليم السبعة التي في الربع المسكون من الأرض وأقاليمها أقسامها، وذلك أن الدنيا مقسومة على سبعة أسهم على تقدير أصحاب الهيئة. ثم شرع في الشرط الثاني بقوله (وإنما تعقد لمصلحة) ولا يكفي انتفاء المفسدة لما فيه من موادعتهم بلا مصلحة، وقد قال تعالى * (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون) *. ثم بين المصلحة بقوله (كضعفنا بقلة عدد) لنا (وأهبة، أو) لا لضعفنا، بل لأجل (رجاء إسلامهم، أو بذل جزية) أو نحو ذلك كحاجة الإمام إلى إعانتهم له على غيرهم ولأنه (ص) هادن صفوان بن أمية أربعة أشهر عام الفتح وقد كان (ص) مستظهرا عليه، ولكنه فعل ذلك لرجاء إسلامه، فأسلم قبل مضيها.
تنبيه: قوله: أو رجاء معطوف على قوله كضعفنا، لا على الذي يليه كما يفهم مما قدرته، فكان ينبغي إعادة الجار فيه: أي أن المصلحة تارة تكون لضعفنا لقلة العدد والأهبة، وتارة مع قوتنا، ولكن لرجاء إسلامهم أو غيره.
ثم شرع في الشرط الثالث بقوله (فإن لم يكن) بنا ضعف ورأي الإمام المصلحة فيها (جازت) ولو بلا عوض (أربعة أشهر) للآية المارة ولمهادنته صلى الله عليه وسلم صفوان كما مر (لا سنة) فلا يجوز جزما، لأنها مدة تجب فيها الجزية فلا يجوز تقريرهم فيها بلا جزية (وكذا دونها) فوق أربعة أشهر لا يجوز أيضا (في الأظهر) لزيادتها