بأن القاضي أجدر بالاحتياط منه. فإن قيل: الرافعي رجح في الكلام على الرشوة جوازه وهنا عدمه. أجيب بأن ما هناك في المحتاج وما هنا في غيره. ولا يجوز عقد الإجارة على القضاء كما مر في بابها وأجرة الكاتب ولو كان القاضي وثمن الورق الذي يكتب فيه المحاضر والسجلات وغيرهما من بيت المال، فإن لم يكن فيه مال أو احتيج إليه إلى ما هو أهم فعلى من له العمل من مدع ومدعى عليه إن شاء كتابة ما جرى في خصومته، وإلا فلا يجبر على ذلك، لكن يعلمه القاضي له أنه إذا لم يكتب ما جرى فقد ينسى شهادة الشهود وحكم نفسه. وللإمام أن يأخذ من بيت المال لنفسه ما يليق به من خيل وغلمان ودار وأمتعة، ولا يلزمه الاقتصار على ما اقتصر عليه النبي (ص) والخلفاء الراشدون والصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين لبعد العهد عن زمن النبوة التي كانت سببا للنصر بالرعب في القلوب، فلو اقتصر اليوم على ذلك لم يطع وتعطلت الأمور. ويرزق الإمام أيضا من بيت المال كل من كان عمله مصلحة عامة للمسلمين كالأمير والمفتي والمحتسب والمؤذن وإمام الصلاة ومعلم القرآن وغيره من العلوم الشرعية والقاسم والمقوم والمترجم وكاتب الصكوك، فإن لم يكن في بيت المال شئ لم يندب أن يعين قاسما ولا كاتبا ولا مقوما ولا مترجما ولا مسمعا ولا مزكيا، وذلك لئلا يغالوا بالأجرة. (ويتخذ درة) بكسر الدال المهملة وتشديد الراء، (للتأديب) اقتداء ب عمر رضي الله تعالى عنه.
تنبيه: قد يفهم كلام المصنف أن القاضي لا يؤدب بالسوط، وليس مرادا، بل له ذلك إن أدى إليه اجتهاده.
فائدة: قال الشعبي: كانت درة عمر أهيب من سيف الحجاج. قال الدميري: وفي حفظي من شيخنا أنها كانت من نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه ما ضرب بها أحدا على ذنب وعاد إليه. (و) يتخذ (سجنا لأداء حق) الله تعالى أو الآدمي، (ولتعزير) لأن عمر رضي الله تعالى عنه اشترى دارا بمكة بأربعة آلاف درهم وجعلها سجنا، رواه البيهقي وعبد الرازق في مصنفه. وفي البخاري: بأربعمائة.
تنبيه: لو امتنع مديون من أداء ما عليه تخير القاضي من بيع ماله بعير إذنه وبين سجنه ليبيع مال نفسه كما في الروضة في باب التفليس نقلا عن الأصحاب. ولا يسجن والد بدين ولده في الأصح، ولا من استؤجرت عينه لعمل وتعذر عمله في السجن كما في فتاوى الغزالي، ونفقة المسجون في ماله وكذا أجرة السجن والسجان. ولو استشعر القاضي من المحبوس الفرار من حبسه فله نقله إلى حبس الجرائم كما في الروضة وأصلها عن ابن القاص. ولو سجن لحق رجل فجاء آخر وادعى عليه أخرجه الحاكم بغير إذن غريمه ثم رده والحبس لمعسر عذر في ترك الجمعة له. ويتخذ أعوانا ثقات. قال شريح الروياني: وأجرة العين على الطالب إن لم يمتنع خصمه من الحضور، فإن امتنع فالأجرة عليه لتعديه بالامتناع. (ويستحب كون مجلسه) أي القاضي (فسيحا) لأن الضيق يتأذى منه الخصوم، (بارزا) أي ظاهرا ليعرفه من أراده من مستوطن وغريب (مصونا من أذى حر وبرد) بأن يكون في الصيف في مهب الريح وفي الشتاء في كن. ويكون مصونا أيضا من كل ما يؤذى من نحو الروائح والدخان والغبار. (لائقا بالوقت) فيجلس في كل فصل من الصيف والشتاء وغيرهما بما يناسبه، فيجلس في الصيف في مهب الريح وفي الشتاء في كن، وهذا معلوم من قوله قبل: مصونا. ولو عبر بما قاله في المحرر، فإنه قال: لائقا بالوقت لا يتأذى فيه بالحر والبرد، فجعل ذلك مثل اللائق لا صفة أخرى كان أولى. وزاد على المحرر قوله: (والقضاء) كأن يكون دارا (لا مسجد) فيكره اتخاذه مجلسا للحكم، لأن مجلس القاضي لا يخلو عن اللغط وارتفاع الأصوات. وقد يحتاج لاحضار المجانين والصغار والحيض والكفار والدواب والمسجد يصان عن ذلك. وفي مسلم: أنه (ص) حين سمع من ينشد ضالته في المسجد قال: (إن المساجد لم تبن لهذا إنما بنيت له) فإن اتفقت قضية أو قضايا وقت حضوره في المسجد لصلاة أو غيرها فلا بأس بفصلها، وعلى ذلك يحمل ما جاء عنه (ص) وعن خلفائه في القضاء في