حتى يسأل لأنها من الحقوق المسترعاة. وقد مر في كتاب السير أنه يجب على الإمام أن يولي في كل مسافة عدوى قاضيا كما يجب عليه أن يجعل في كل مسافة قصر مفتيا، وتقدم هناك الفرق بينهما. قال البلقيني: وأما إيقاع القضاء بين المتنازعين ففرض عين على الإمام بنفسه أو نائبه، وإن ترافعا إلى النائب فإيقاع القضاء بينهما فرض عين عليه، ولا يجوز له الدفع إذا كان فيه تعطيل وتطويل نزاع: (فإن تعين) للقضاء واحد في تلك الناحية بأن لم يصلح غيره، (لزمه طلبه) إن لم يعرض عليه للحاجة إليه، ولا يعذر لخوف ميل منه، بل يلزمه أن يطلب ويقبل ويحترز من المال كسائر فروض الأعيان.
تنبيه: محل وجوب الطلب إذا ظن الإجابة كما بحثه الأذرعي، فإن تحقق أو غلب على ظنه عدمها لما علم من فساد الزمان وأئمته لم يلزمه، فإن عرض عليه لزمه القبول، فإن امتنع عصى، وللإمام إجباره على الأصح، لأن الناس مضطرون إلى علمه ونظره فأشبه صاحب الطعام إذا منعه المضطر. فإن قيل: إنه بامتناعه حينئذ يصير فاسقا، ويحمل قولهم على أنه يجبر أنه يؤمر بالتوبة أو لا، فإذا تاب أجبر. أجيب بأنه لا يفسق بذلك لأنه يمتنع غالبا إلا متأولا للتحذيرات الواردة في الباب، واستشعاره من نفسه العجز، وعدم اعتماده على نفسه الامارة بالسوء، وكيف يفسق من امتنع متأولا تأويلا سائغا أداه اجتهاده إليه وأن المنجى له من عذاب الله وسخ طه عدم التلبس بهذا الامر، وقد يرى هو أنه لا يعرف إلا باعترافه، فالوجه عدم فسقه بمجرد امتناعه خوفا على دينه أو غير ذلك من الاعذار الباطنة الخفية علينا، ولا يعصي بذلك أيضا لما ذكر. ولو خلا الزمان عن إمام رجع الناس إلى العلماء، فإن كثر علماء الناحية فالمتبع أعلمهم، فإن استووا وتنازعوا أقرع كما قاله الإمام. (وإلا) بأن لم يتعين للقضاء واحد في تلك الناحية لوجود غيره معه نظرت، (فإن كان غيره أصلح) لتولية القضاء منه (وكان) الأصلح (يتولاه) أي يرضى بتوليته، (فللمفضول) المتصف بصفة القضاء وهو غير الأصلح (القبول) للتولية إذا بذل له من غير طلب في الأصح. (وقيل: لا) يجوز له قبولها. (و) على الأول (يكره طلبه) لوجود من هو أولى منه، (وقيل: يحرم) واستشكله الإمام بأنه إذا كان النصب جائزا فكيف يحرم طلب الجائز؟ ونظير هذا سؤال الصدقة في المسجد، فإنه لا يجوز. ويجوز إعطاؤه على الأصح، إذ الاعطاء باختيار المعطي فالسؤال كالعدم. وعلى الثاني يحرم طلبه.
تنبيه: أشعر قوله: يتولاه تخصيص الخلاف برضاه بالتولية، فإن لم يرض بها فكالعدم، وهو كذلك كما في الروضة وأصلها. ومحله أيضا حيث لا عذر، فإن كان لكون المفضول أطوع في الناس أو أقرب للقلوب أو كان الأفضل غائبا أو مريضا انعقد للمفضول جزما كما قاله الماوردي. (وإن كان) غيره (مثله) وسئل بلا طلب، (فله القبول) لأنه من أهله ولا يلزمه على الأصح لأنه قد يقوم به غيره. وقد امتنع ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لما سأله عثمان رضي الله عنه القضاء، رواه الترمذي. وعرض على الحسين بن منصور النيسابوري قضاء نيسابور، فاختفى ثلاثة أيام ودعا الله تعالى فمات في اليوم الثالث. وورد كتاب السلطان بتولية نصر بن علي الجهضمي عشية قضاء البصرة، فقال: أشاور نفسي الليلة وأخبركم غدا، وأتوا عليه من الغد فوجدوه ميتا. وقال مكحول: لو خيرت بين القضاء والقتل اخترت القتل. وامتنع منه الإمام الشافعي رضي الله عنه لما استدعاه المأمون لقضاء الشرق والغرب. وامتنع منه الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه لما استدعاه المنصور فحبسه وضربه. وحكى القاضي الطبري وغيره أن الوزير بن الفرات طلب أبا علي بن خيران لتولية القضاء، فهرب منه فختم على دوره نحوا من عشرين يوما، كما قيل فيه:
وطينوا الباب على أبي علي عشرين يوما ليلي فما ولي وقال بعض القضاة:
وليت القضاء وليت القضاء لم يكن شيئا توليته