مغني المحتاج - محمد بن أحمد الشربيني - ج ٤ - الصفحة ٣٧٢
ليتم الاجل. وشرعا: الخصومة بين خصمين فأكثر بحكم الله تعالى. قال ابن عبد السلام: الحكم الذي يستفيده القاضي بالولاية هو إظهار حكم الشرع في الواقعة فيمن يجب عليه إمضاؤه فيه بخلاف المفتي، فإنه لا يجب عليه إمضاؤه، وسمي القضاة حكما لما فيه من الحكمة التي توجب وضع الشئ في محله لكونه يكف الظالم عن ظلمه، أو من إحكام الشئ، ومنه حكمة اللجام لمنعه الدابة من ركوبها رأسها، وقد قيل إن الحكمة مأخوذة من هذا أيضا لمنعها النفس من هواها.
والأصل في ذلك الكتاب والسنة والاجماع، فمن الكتاب آيات كقوله تعالى: * (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) * وقوله تعالى: * (فاحكم بينهم بالقسط) * وقوله تعالى: * (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس) *. ومن السنة أخبار، كخبر الصحيحين: إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران، وفي رواية صحح الحاكم إسنادها: فله عشرة أجور. وروى البيهقي خبر: إذا جلس الحاكم للحكم بعث الله له ملكين يسددانه ويوفقانه، فإن عدل أقاما، وإن جار عرجا وتركاه. قال المصنف في شرح مسلم: أجمع المسلمون على أن الحديث - يعني الذي في الصحيحين - في حاكم عالم أهل للحكم إن أصاب فله أجران باجتهاده، وإن أخطأ فله أجر باجتهاده في طلب الحق، أما من ليس بأهل للحكم فلا يحل له أن يحكم، وإن حكم فلا أجر له، بل هو آثم ولا ينفذ حكمه سواء وافق الحق أم لا، لأن إصابته اتفاقية ليست صادرة عن أصل شرعي، فهو عاص في جميع أحكامه سواء وافق الصواب أم لا، وهي مردودة كلها، ولا يعذر في شئ من ذلك. وقد روى الأربعة والحاكم والبيهقي أن النبي (ص) قال: القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق وقضى به، واللذان في النار: رجل عرف الحق فجار في الحكم، ورجل قضى للناس على جهل فالقاضي الذي ينفذ حكمه هو الأول والثاني والثالث لا اعتبار بحكمهما. والاجماع منعقد على فعله سلفا وخلفا. وقد استقضى النبي (ص) والخلفاء الراشدون بعده فمن بعدهم ووليه سادات وتورع عنه مثلهم، وورد من الترغيب والتحذير أحاديث كثيرة. ولا شك أنه منصب عظيم إذا قام العبد بحقه، ولكنه خطر والسلامة فيه بعيدة إلا من عصمه الله تعالى، وقد كتب سلمان الفارسي إلى أبي الدرداء رضي الله تعالى عنهما لما كان قاضيا ببيت المقدس: إن الأرض لا تقدس أحدا، وإنما يقدس المرء عمله، وقد بلغني أنك جعلت طبيبا تداوى، فإن كنت تبرئ فنعما لك، وإن كنت مطببا فاحذر أن تقتل أحدا فتدخل النار، فما بالك بمن ليس بطبيب ولا مطبب.
وقال بعض الأكابر ممن دخل في القضاء: أنا نذير لمن يكون عنده أهلية العلم أن لا يتولى القضاء. فإن كلام العلماء يؤخذ بالقبول، وكلام القضاة تسري إليه الظنون، وإن ترتب على القضاء أجر في وقائع جزئية، فالعلم يترتب عليه أمور كلية تبقى إلى يوم القيامة، وما ورد في التحذير عنه: من جعل قاضيا ذبح بغير سكين، فهو محمول على من يكره له القضاء، أو يحرم على ما سيأتي. (هو) أي قبول تولية القضاء من الإمام (فرض كفاية) في حق الصالحين له في الناحية، أما كونه فرضا فلقوله تعالى: * (كونوا قوامين بالقسط) * ولان طباع البشر مجبولة على التظالم ومنع الحقوق، وقل من ينصف من نفسه، ولا يقدر الإمام على فصل الخصومات بنفسه فدعت الحاجة إلى تولية القضاء. وأما كونه على الكفاية فلانه أمر بمعروف أو نهي عن منكر، وهما على الكفاية، وقد بعث النبي (ص) عليا إلى اليمن قاضيا، فقال: يا رسول الله بعثتني أقضي بينهم وأنا شاب لا أدري ما القضاء فضرب النبي (ص) صدره وقال:
اللهم اهده وثبت لسانه قال: فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما شككت في قضاء بين اثنين، رواه أبو داود والحاكم وقال: صحيح الاسناد. واستخلف النبي (ص) عتاب بن أسيد على مكة واليا وقاضيا، وقلد معاذا قضاء اليمن. وبعث أبو بكر أنسا إلى البحرين، وبعث عمر أبا موسى الأشعري إلى البصرة. فلو كان فرض عين لم يكف واحد. وعن القاضي أبي الطيب استحباب نصب القضاة في البلدان، قال ابن الرفعة: ولم أره لغيره. فعلى المشهور إذا قام بالفرض من يصلح سقط الفرض عن الباقين. وإن امتنعوا أثموا وأجبر الإمام أحد الصالحين على الصحيح. وخرج بقبوله التولية إيقاعها للقاضي من الإمام فإنها فرض عين عليه لدخوله في عموم ولايته ولا يصح إلا من جهته، ولا يجوز أن يتوقف
(٣٧٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 367 368 369 370 371 372 373 374 375 376 377 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 كتاب الجراح 2
2 فصل: في الجناية من اثنين وما يذكر معها 12
3 فصل: في أركان القصاص في النفس، وهي ثلاثة الخ 13
4 فصل: في تغير حال المجروح من وقت الجرح إلى الموت الخ 23
5 فصل: في شروط القصاص في الأطراف والجراحات والمعاني، وفي إسقاط الشجاج الخ 25
6 باب كيفية القصاص ومستوفيه والاختلاف فيه 30
7 فصل: في اختلاف ولي الدم والجاني 38
8 فصل: في مستحق القصاص ومستوفيه 39
9 فصل: في موجب العمد، وفي العفو 48
10 كتاب الديات 53
11 فصل: في موجب ما دون النفس، وهو ثلاثة أقسام الخ 58
12 فصل: تجب الحكومة فيما لا مقدر فيه الخ 77
13 باب موجبات الدية والعاقلة والكفارة 80
14 فصل: فيما يوجب الشركة في الضمان وما يذكر معه 89
15 فصل: في العاقلة، وكيفية تأجيل ما تحمله 95
16 فصل: في جناية الرقيق 100
17 فصل: في دية الجنين 103
18 فصل: في كفارة القتل التي هي من موجباته 107
19 كتاب دعوى الدم والقسامة 109
20 فصل: فيما يثبت موجب القصاص وموجب المال من إقرار وشهادة 118
21 كتاب البغاة 123
22 فصل: في شروط الإمام الأعظم الخ 129
23 كتاب الردة 133
24 كتاب الزنا 143
25 كتاب حد القذف 155
26 كتاب قطع السرقة 158
27 فصل: فيما لا يمنع القطع وما يمنعه الخ 170
28 فصل: في شروط السارق الخ 174
29 باب قاطع الطريق 180
30 فصل: في اجتماع عقوبات في غير قاطع الطريق 184
31 كتاب الأشربة 186
32 فصل: في التعزير 191
33 كتاب الصيال وضمان الولاة 194
34 فصل: في ضمان ما تتلفه البهائم 204
35 كتاب السير 208
36 فصل: فيما يكره من الغزو الخ 220
37 فصل: في حكم ما يؤخذ من أهل الحرب 227
38 فصل: في الأمان 236
39 كتاب الجزية 242
40 فصل: في أقل الجزية دينار لكل سنة 248
41 فصل: في أحكام عقد الجزية الزائدة على ما مر 253
42 باب الهدنة 260
43 كتاب الصيد والذبائح 265
44 فصل: يحل ذبح حيوان مقدور عليه الخ 273
45 فصل: فيما يملك به الصيد وما يذكر معه 278
46 كتاب الأضحية 282
47 فصل: في العقيقة 293
48 كتاب الأطعمة 297
49 كتاب المسابقة والمناضلة 311
50 كتاب الايمان 320
51 فصل: في صفة كفارة اليمين 327
52 فصل: في الحلف على السكنى والمساكنة الخ 329
53 فصل: في الحلف على أكل أو شرب الخ 335
54 فصل: في مسائل منثورة 342
55 فصل: في الحلف على أن لا يفعل كذا 350
56 كتاب النذر 354
57 فصل: في نذر حج أو عمرة أو هدي أو غيرها 362
58 كتاب القضاء 371
59 فصل: فيما يعرض للقاضي مما يقتضي عزله الخ 380
60 فصل: في آداب القضاء وغيرها 385
61 فصل: في التسوية بين الخصمين 400
62 باب القضاء على الغائب 406
63 فصل: في بيان الدعوى بعين غائبة أو غيرها الخ 411
64 فصل: في ضابط الغائب المحكوم عليه الخ 414
65 باب القسمة 418
66 كتاب الشهادات 426
67 فصل: في بيان ما يعتبر فيه شهادة الرجال الخ 440
68 فصل: في تحمل الشهادة وأدائها وكتابة الصك 450
69 فصل: في جواز تحمل الشهادة على الشهادة وأدائها 452
70 فصل: في رجوع الشهود عن شهادتهم 456
71 كتاب الدعوى والبينات 461
72 فصل: فيما يتعلق بجواب المدعى عليه 468
73 فصل: في كيفية الحلف والتغليظ فيه الخ 472
74 فصل: في تعارض البينتين مع شخصين 480
75 فصل: في اختلاف المتداعيين في العقود وغيرها 485
76 فصل: في شروط القائف 488
77 كتاب العتق 491
78 فصل: في العتق بالبعضية 499
79 فصل: في الاعتاق في مرض الموت الخ 502
80 فصل: في الولاء 506
81 كتاب التدبير 509
82 فصل: في حكم حمل المدبرة والمعلق عتقها الخ 513
83 كتاب الكتابة 516
84 فصل: فيما يلزم السيد بعد الكتابة الخ 521
85 فصل: في لزوم الكتابة وجوازها الخ 528
86 فصل: في مشاركة الكتابة الفاسدة الصحيحة ومخالفتها لها 532
87 كتاب أمهات الأولاد 538
88 التعريف بالامام النووي 545
89 التعريف بالامام الشربيني الخطيب 548