ضمان التعدي كما في الباقي فيها إذ لا تعدي فيه. (ومتى صارت) أي الوديعة (مضمونة بانتفاع وغيره) مما مر، (ثم ترك الخيانة لم يبرأ) من الضمان، ولا يجوز له بعد التعدي حفظها كما في فتاوي البغوي، بل عليه ردها، بخلاف المرهون في يد المرتهن والمال في يد الوكيل بعد تعديهما. (فإن أحدث له المالك استئمانا) كقوله: استأمنتك عليها أو أبرأتك من ضمانها، أو أمره بردها إلى الحرز، (برئ في الأصح) لأنه أسقط حقه. والثاني: لا يبرأ حتى يردها إليه أو إلى وكيله، لخبر: على اليد ما أخذت حتى تؤديه.
تنبيه: احترز بقوله: أحدث عما لو قال له في الابتداء أودعتك، فإن خنت ثم تركت الخيانة عدت أمينا فخان ثم ترك الخيانة فلا يعود أمينا قطعا كما نقلاه عن المتولي وأقراه، لأنه إسقاط ما لم يجب وتعليق للوديعة. قال الأذرعي: ولا خفاه أن هذا الاستئمان إنما هو للمالك خاصة لا للولي والوكيل ونحوهما بل لا يجوز لهم ذلك، ولو فعلوه لم يعد أمينا قطعا. ولو أتلف الوديع الوديعة ثم أحدث له المالك استئمانا في البدل لم يبرأ بلا خلاف، لأن الواجب عليه أن يرد البدل إلى المالك. ثم شرع في الحكم الثالث، وهو ردها عند بقائها على مالكها إذا طلبها، فقال: (ومتى طلبها) أي الوديعة (المالك) أو وارثه بعد موته وهو أهل للقبض، (لزمه) أي الوديع (الرد) لقوله تعالى: * (إن الله يأمركم ان تؤدوا الأمانات إلى أهلها) *. أما إذا لم يكن أهلا للقبض كمحجور عليه فلا يلزمه الرد إليه، بل يحرم، فإن رد عليه ضمن.
ولو رد على المالك في حال سكره، قال القفال في فتاويه: يحتمل أن يقال لا ضمان، لأن السكران مخاطب بخلاف الصبي اه. وهذا ظاهر. وليس المراد برد الوديعة حملها إلى مالكها، بل يحصل (بأن يخلي بينه وبينها) فقط، وليس له أن يلزم المالك الاشهاد، وإن كان أشهد عليه عند الدفع فإنه يصدق في الدفع، بخلاف ما لو طلبها وكيل المودع، لأنه لا يقبل قوله في دفعها إليه. ولو كان الذي أودعه حاكما ثم طلبه فعليه أن يشهد له بالبراءة، لأنه لو عزل لم يقبل قوله، قاله الإصطخري في أدب القضاء. قال الزركشي: ويجئ مثله إذا كان المودع ينوب عن غيره بولاية أو وصية. ولو أودع شخص يعرف باللصوصية وديعة عند آخر وغلب على ظن الوديع أنها لغيره ثم طالبه بالرد هل يلزمه أو يتوقف فيه ويطلب صاحبها فإذا لم يظهر مع امتداد الزمان رده؟ احتمالان في البحر، والذي يظهر أنه ليس له امتناع لظاهر اليد. ولو بعث شخص رسولا لقضاء حاجة وأعطاه خاتمه أمارة لمن يقضي له الحاجة وقال: رده علي بعد قضائها فوضعه بعد قضائها في حرز مثله، لم يضمن إذ لا يجب عليه إلا التخلية لا النقل. ولو قال من عنده وديعة لمالكها: خذ وديعتك لزمه أخذها كما في البيان، وعلى المالك مؤنة الرد.
تنبيه: ما ذكره المصنف حيث لا شريك للمودع، فلو أودعه اثنان وجاء أحدهما يسترد نصيبه لم يدفعه إليه كما جزم به الرافعي، لأنهما أنفقا في الايداع فكذا في الاسترداد، بل يرفع الامر إلى الحاكم ليقسمه ويدفع إليه نصيبه.
واحترز بتفسير الرد بالتخلية عن رد الأمانات الشرعية، كثوب طيرته الريح في داره، فإن ردها بالأعلام بحصولها في يده. (فإن أخر) رد الوديعة بالمعنى المذكور (بلا عذر ضمن) لتعديه، فإن تأخر لعذر كصلاة وطهارة وملازمة غريم وأكل لم يضمن. هذا إن كان العذر لا يطول زمنه، فإن كان يطول كنذر اعتكاف شهر مثلا أو إحرام يطول زمنه، قال الأذرعي: فينبغي أن يقال إن تمكن من توكيل أمين متبرع يخلي بينها وبين ربها لزمه ذلك، فإن أخر ضمن، فإن لم يمكن ذلك فليرفع المالك الامر إلى الحاكم ليبعث إليه بعد ثبوت الايداع عنده أن يبعث معه من يخلي بينه وبينها، فإن أبى بعث معه الحاكم أمينا يسلمها إليه كما لو كان الوديع غائبا اه. ولو قال له المالك: أعط وكيلي فلانا وتمكن ضمن بالتأخير ولو لم يطالبه الوكيل، وكذا من يعرف مالك الضالة وما طيرته الريح. وإن أخر عن وكيل حتى يشهد عليه لم يضمن، لما مر أنه لا يقبل قوله في الرد إليه، أو ليعطي آخر وقد قال له: أعطها أحد وكلائي ضمن، فإن قال مع ذلك: ولا تؤخر فأخر عصى أيضا، فإن قال: أعط من شئت منهم لم يعص بالتأخير ولم يضمن في أحد وجهين