يجري مجرى ذلك) ولكنه لم يسمح في هذا المقام أن يصرح بذكر الهوان ونحوه فأبدع في الأسلوب وطوى ذكر ما لا يجب ذكره، فأوحاه إلى الفهم بطرف خفي وبيان شجي.
وقال عبد مناف الهذلي في آخر قصيدته:
حتى إذا أسلكوهم في قتائدة * شلاكما تطرد الجمالة الشردا فطوى ذكر الحال بعد ذلك ولم يأت بجواب (إذا) ليوكل الأمر إلى رجم الظنون، وقال الله تعالى في سورة يوسف 15 (فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا إليه لتنبئهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون) فطوى القرآن الكريم من حال يوسف وإخوته في تلك الساعة ذكر ما يتوزع السامع بين الشجي المبرح والغيظ المهيج، فلم يتعرض لما يلزم في تلك الحالة من تذلل يوسف بين يدي إخوته وتوسله بهم، واستعطافه لهم، ولواذه بواحد واحد منهم، ومناشدته لهم بالله والرحم بطرف خاشع وعين عبري وقلب مروع يسترحم لشبابه، ويستبقيهم على مهجته بلين الخطاب وشجي البيان. ومن قسوة إخوته وغلظتهم وما جرى لهم معه في تلك الحال من الكلام القاسي والأحوال الفظة..
فما ظنك بالغلام اليافع ربيب الترف والدلال إذا شاهد تلك الحال المدهشة كيف يفعل؟ وكيف يتوسل بمن يمت إليه بالأخوة ويرجو فيه الرقة ويستثير منه العواطف؟ أفلا يقرح قلبك شرح حاله، أم لا يوري غيظك ما يجري معه إذ ذاك من نكاية القسوة وبوادر الغلظة.
فالقرآن الكريم راعى في هذا المقام كل جانب تنبغي مراعاته، فطوى الكلام بأحسن طي وأشار إلى الحال بأجمل إجمال وألطف تنبيه، فكأنما أوقفك عليه بفكرك ومثله لوجدانك، ولكنه قبل أن يقرع الفكر بالشجي قلبك عجل لك البشارة على النسق بأن الله جل شأنه قد سلى يوسف بالوحي وبشره بالنجاة والرفعة التي ينبئ فيها إخوته بأمرهم هذا وهم لا يشعرون فالقرآن الكريم لأنه كلام الله لم يدمج القصة كما أدمجتها التوراة الرائجة (تك 37: 23 و 24).