نذقه بعض ما يستحقه، بل بعض العذاب المعد عند الله للأشرار، فإن كل معذب شخصا كان أو صنفا إنما يعذب ببعض العذاب، ويعذب غيره ببعض آخر، أعاذنا الله من ذلك ببركة الإيمان والإخلاص في توحيده وتقديسه، وبهذا تعرف إن شاء الله أن المتعرب يعيب المسك برياه.
وقال لبيد بن ربيعة العامري:
قالت غداة انتجينا عند جارتها * أنت الذي كنت لولا الشيب والكبر فحذف خبر (كنت) لنكتة آثرها، وقال آخر:
إذا قيل سيروا إن ليلى لعلها * جرى دون ليلى مائل القرن أعضب فحذف خبر (لعل) لنكتة آثرها أيضا، وقال مساور بن هند بن قيس:
زعمتم أن إخوتكم قريش * لهم ألف وليس لكم ألوف أولئك أوهنوا خوفا وجوعا * وقد جاعت بنو أسد وخافوا فاكتفى عن ذكر تكذيبهم بالحجة عليه.
ومما ذكرناه تعرف الحسن والبراعة في قوله تعالى في سورة القصص 46 (وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك) فإنه طوى ذكر المستدرك بقوله تعالى (ولكن) لأجل تلألؤ المقام به وإشراقه على أرجائه، وتركه ليستعذبه الفهم من المورد نهلا وعلا، ويقتبسه من مشكاة البرهان، ويكون هو الزعيم باستنتاجه والمستأنس ببرهانه، لا كما يلقى عليه باللفظ ثقلا على وساوسه.
وعلى نحو هذا جاء قوله تعالى في سورة البقرة 67: (وإذ قتلتم نفسا فادارئتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون 68 فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون) فقد ألقى حياة المقتول إلى الفهم بسبب ضربه ببعض البقرة السابق ذكرها، ولقنه بها من سوق المورد وحججه بأحسن مما يلقيه إليها بفضول اللفظ، كما لا يخفى إلا على تعصب المتعرب فانظر إلى شططه (ذ ص 91 و 92).