(ولنستطرد الكلام في الحذف) ولا يخفى عليك أنه قد شاع في كلام العرب في الشعر والنثر اكتفاء بدلالة المقام، وتوصلا في بعض الموارد إلى غرض ونكتة لا تحصل بدونه، فيخرج الكلام به كالذهب المصفى والجوهر المجلو، وقد جروا في الحذف على أنحاء:
(أحدهما) أنهم التزموا بالحذف فيما إذا كانت دلالة المقام لازمة، وجعله النحويون من الحذف الواجب في العربية، فمن ذلك خبر المبتدأ قبل جواب (لو) نحو (لولا البعد لزرتك) وقبل جواب القسم الصريح نحو (لعمري لأفعلن) ولا يحتاج هذا إلى ذكر الشواهد، وكذا في نحو (اخطب ما يكون الأمير قائما) و (ضربي زيدا قائما) و (كل رجل وضيعته) ومن هذا النحو ما يلتزم النحويون بتقديره في الظرف والجار والمجرور المستقرين. (وثانيها) أنهم اطرد عندهم الحذف في موارد جعل لها النحويون ضابطا منها حذف الضمير المنصوب أو المجرور العائد على الموصول، ومنها حذف الجر قبل (أن) المصدرية.
(وثالثها) ما لا ينحصر بعنوان عام إلا بدلالة المقام وهو كثير لا يحصى فلنذكر من ذلك شيئا من شعر مشاهير الشعراء في العرب ممن طرقوا باب البلاغة وشهد لهم بالتقدم.
قال امرؤ القيس في معلقته:
فيا لك من ليل كأن نجومه * بأمراس كتان إلى صم جندل أي كأن نجومه شدت، وقال طرفة بن العبد في معلقته يصف ذنب ناقته:
فطورا به خلف الزميل وتارة * على حشف كالشن ذاو مجدد أي فطورا تضرب به.. وقال أيضا:
ألا أيهذا اللائمي اشهد الوغى * وأن أحضر اللذات هل أنت مخلدي أي على أن اشهد.. وقال أيضا:
وإن يلتقي الحي الجميع تلاقني * إلى ذروة البيت الكريم المصمد