قال الله تعالى شأنه في شأن ذي القرنين في سورة الكهف 84 (حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة).
فاعترض المتكلف على ذلك (يه 2 ج ص 91)، وجعله من الجهل بمبادئ علم الفلك.
(قلت): لا يخفى أن المغرب أمر مبهم إضافي، وأن لكل ناحية مغربا وهو ما تغيب فيه الشمس عن تلك الناحية، والمغرب العمومي للمعمور القديم وهو (آسيا وإفريقيا وأوربا) إنما هو البحر المحيط، فالشمس لا تغرب عن المعمور المعتد به من هذه القطع الثلاث إلا ويكون تمام غروبها أو بعضه في البحر المحيط.
والآية الكريمة تعرضت لسر الغيب الذي أظهره الاكتشاف بعد قرون عديدة، وجرى التعبير في الآية عن البحر بالعين مجازا، كما جرى التعبير في بليغ الكلام عن الفرات بالنطفة (وهي القطرة من الماء ونحوها) وهو من محاسن المجازات في مقامها، وبوصف هذه العين بكونها حمئة ذات طين قد أشير إلى غيب (أمريكا) لأنه لا يكون تخصيص هذا البحر، ووصفه بكونه ذا طين إلا باعتبار الإشارة إلى أمريكا، فلا تحسب أن وصف البحر بكونه ذا طين كان باعتبار وجود الطين في قراره أو حافاته وشواطئه، لأن كل بحر وكل نهر وكل عين لا بد أن يكون في حافاته وقراره طين، فلا بد أن يكون المراد هو الطين الذي في وسطه.
ومقتضى المناسبة في وصف المحيط العظيم بأن في وسطه طينا لا بد أن يكون المراد منه قطعة أمريكا، ألا ترى أن أقل الأقطار لهذا المحيط يبلغ مائة وثمانين درجة، كما في ناحية الدرجة السادسة والستين وما قاربها من العرض الشمالي، فما ظنك بالطين المناسب لوصف هذا البحر به، أتراه يناسب أن يكون غير أمريكا.
(فإن قلت): إذن فلماذا عدل عن إيضاح هذه الحقيقة بالصراحة إلى الإشارة إليها بهذه الإشارة وهذه العبارة (قلنا): إن حمكة الوحي في دعوته إلى الهدى ودين الحق لتقتضي أن لا يلقي على أذهان الناس شيئا يثقل عليها