فإذا عرفت هذا عرفت البراعة وعلو الشأن في قوله تعالى في سورة البقرة 173 (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس وأولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون).
وفهمت أن الغرض من الآية الكريمة ليس هو بيان الفروض والأمثال وإنما الغرض فيها المقابلة بين الأفعال الواقعة من الغواة والمهتدين وإيضاح المفاضلة فيما بينها وفيما بين فاعليها، والتنويه بمحاسن أفعال المهتدين والتمجيد لهم بها، والتبكيت للغواة وأفعالهم، فتعرض القرآن لعوائدهم القشرية التي ألصقوها بنسب العبادة وموهوها باسم البر، وليس فيها إلا الحركات البدنية التي لا تتعب من دون علاقة لها مع القلب ولا ارتباط لها بالإخلاص والإقبال ولم يتزينوا معها بزينة رغبة الإيمان ولا رهبة العرفان.
وحاصل ما يستنير به الفهم من معنى الآية الكريمة هو أنه ليس البر ملاعبكم المعتادة وإن تولوا وجوهكم إلى مشرق الشمس أو مغربها صورة بلا روح وخيالا بلا معنى وعوائد بلا مستند، فلا تتبجحوا ولا تتبرروا بها فلستم بفعلها من البر في شئ، ولكن انظروا واعتبروا بأولياء الله وخاصة عباده الأبرار الذين آمنوا بالله فانقادت نفوسهم وجوارحهم إلى تقواه، وأقبلت في حبه على طلب رضاه، وأرخصوا لذلك كل عزيز واستسهلوا في سبيله كل صعب، وآمنوا باليوم الآخر وما فيه من عظيم الثواب، فاقبلوا على العمل لأجله راغبين، وما فيه من أليم العقاب، فتحذروا عما فيه بأشد الرهبة وآمنوا بالملائكة وأنزلوهم منازلهم، وبالكتاب المنزل من الله فاتبعوا هداه وبالنبيين فأذعنوا بأنهم رسل الله الهداة البررة المعصومون ففازوا بهداهم والاقتداء بهم ولم يستبدلوا عن اتباع شريعتهم بالغلو فيهم، ولم يفرطوا بوصمهم بالنقائص التي لا ترتضي لسائر البشر، بل عرفوا جليل قدرهم وانشرحت صدورهم لما بلغوه عن الله، ولم يعيبوه ولم ينتقصوه، ولم يحملهم التمرد على الفرار إلى اختراع عبادة لا تبهظ الأهواء ولا تعارض الشح ولا تقرب