معانيها (ذ ص 73)، فأقول: وقد جاء على مثل هذا الاستعمال قول لبيد بن ربيعة:
أليس ورائي أن تراخت منيتي * لزوم العصا تحني عليها الأصابع وقول عبيد:
أليس ورائي أن تراخت منيتي * أدب مع الولدان أزحف كالنسر وقول المرقش:
ليس على طول الحياة ندم * ومن وراء المرء ما لا يعلم وهذه الأبيات وأمثالها لو طويناها على غرها لكانت على كل حال شاهدة بكثرة استعمال العرب للفظة (وراء) في المعنى الذي نحاه القرآن الكريم، فإن وجه الاستعمال فيها وفي القرآن الكريم واحد، لأن ما جعل الوراء ظرفا له في الشعر لم يقع في الزمان الماضي ليكون وراء بالمعنى المعروف، وإنما هو مترقب في المستقبل فهو أمام وقدام.
والتحقيق الذي توحي به كل فطرة سليمة، ويشاهده كل فهم مستقيم هو أن (وراء) في الآيات والشعر مستعملة في معناها المعروف الكناية، عن كون مظروفها طالبا مستوليا كاستيلاء الطالب، وقدرته على أخذ المطلوب إذا كان من وراثه، قال تأبط شرا:
ووراء الثار مني ابن أخت * مصع عقدته لا تحل ولا يسلم للآيات الكريمة والشعر المتقدم هذا البيان البارع لهذا الغرض العالي أو عبر بلفظة (أمام) ولتنازل الكلام إلى البساطة.
وقد جاء كثير من كلام العرب ما قد أخذ بمجامع البلاغة والبراعة، وأوحى أسلوبه الخاص وصورته البهية بأسرار بديعة ومقاصد عالية ونكات شريفة لا يحيط بها الكلام البسيط إلا بتطويل ممل، ولكن أصحاب صناعة النحو اضطروا في تطبيقه على صناعتهم التابعة للسان العرب لا المتبوعة، والتجأوا اعتلالا إلى التقدير، وتوصلا إلى الإلمام بفهمه باسم التوسع مع أنا نجد أنه لو أظهرنا ما يقدرونه فيه لفات الغرض وانحل نظام الكلام.