بمخالفته لقطعياتهم الوقتية إلا أن يكون في أمر الدين وتعليم الشريعة، فإن الدين المدعو إليه أثقل ما يكون على الأهواء والجهالات المألوفة، فلا يصح في الحكمة أن يلقي أيضا على أذهان الناس صراحة ينكرونها بجهالاتهم مع أنها لا يهم أمرها في الدين الذي هو الغرض من الدعوة، فإن ذلك معثرة في سبيل الهدى وناقض للغرض من الدعوة.
ألا ترى أنه قد ذهب قوم في الأعصار القديمة إلى أن الأرض كشكل السفينة الطافية على الماء، وذهب آخرون إلى تكفير من يقول بكرويتها، أفترى يحسن مع ذلك في حكمة الوحي أن يضاد أذهانهم بالصراحة بوجود أمريكا، ألم تسمع أن (كولمبيوس) لما عرض على الدول أفكاره في اكتشاف الطريق البحري من أوربا إلى الصين لم يحتفلوا برأيه إلا بالتسفيه، وإنما أسعفته ملكة إسبانيا من خالص مالها التزاما بوعدها، فأسعده الجد بالعثور على أمريكا من حيث لا يحتسب.
هذا مع أن كروية الأرض المقتضية لتصحيح أفكاره وتصويب مشروعه كانت مقررة مسلمة في ذلك الوقت.
والحاصل أن الحكمة اقتضت للقرآن الكريم أن يشير إلى حقيقة أمريكا في البحر المحيط بنحو لا يصادم الجهل، بل بإشارة يسطع نورها، ويتضح مرادها عند انكشاف الحقائق للحس في الأعصر التي يترك فيها التقليد للأسلاف في الطبيعيات، ونسأل الله برحمته ولطفه أن يوفق عباده لترك التقليد في معارف الدين، وهو القائل جل شأنه: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)، ولك العبرة في حسن هذا المجاز في هذه الإشارة ولطف أسلوبه ومناسباته وجريانه على مقتضى الحكمة في الإشارة الغيبية في ذلك العصر فإنه يظهر ذلك كله عند المقايسة بما يذكره الإنجيل الرائج عن قول المسيح في خطاب اليهود انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه، فأنكر اليهود ذلك أشد الإنكار، والإنجيل يقول: إنه قال ذلك عن هيكل جسده، ولما قام من الأموات تذكر تلاميذه أنه قال: هذا (يو 2، 19 - 22)، وبقي هذا الكلام مجهولا حتى جعله اليهود باعتبار ظاهره من الذنوب التي تشبثوا بها في حادثة الصليب (مت 26، 61