وحاصل الأمر أن النبي (ص) عز على الامتناع عن شئ استصلاحا لعائلته، فإن التحريم هو المنع، ولكن شاء الله أن يخفف عن رسوله ثقل هذا القيد، ويتولى إصلاح عائلته بتأديب الوحي فأنكر عليه أن يلقي على نفسه الشريفة ثقل القيود والامتناع عن الحلال.
والمتعرب من خبطه وتعصبه جعل (ذ ص 62) الآية الثانية من تتمة مضمون الآية الأولى ومرتبطة بحكم واقعتها، وأن المعني فيها تحليل الحنث بيمين تضمنها بزعمه التحريم، ولم يشعر أن تغيير الأسلوب في الآيتين يقطع علاقة الارتباط بينهما.
فإن الآية الأولى خطاب للنبي، والثانية خطاب للأمة، مضافا إلى أن غالب الروايات الواردة في واقعة التحريم ليس فيها ذكر لليمين، ولو كان في الواقعة يمين لما أمكن تعلق الآية الثانية به وكونها تبيح مخالفته، لأنه إن قلنا إن التحلة المشروعة هو التعليق على مشيئة الله، فإنما ذلك شريعة وتعليم بالنسبة إلى الأيمان المستقبلة ولا ربط لها بيمين قد مضى.
وإن قلنا: إن التحلة هو التحلل من اليمين بفعل شئ من المحلوف على فعله فلا يمكن ارتباطها بواقعة التحريم، لأنها لو كان فيها يمين لكان على النفي لا على الفعل (أفلا يتدبرون القرآن)، وهذا بعض الوفاء لما وعدناك به (ص 143).
(عود إلى النصب على المدح والتعظيم) وقد جاء أيضا في قوله تعالى في سورة النساء 160 (لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما).
فنصب (المقيمين) على المدح للغرض الذي أشرنا إليه في نصب (الصابرين) فإن المراد من المقيمين الصلاة غير الذين يصلونها بسوق الوجوب، وحث الوعيد، وتوصلا إلى الدعاء الزخارف الدنيوية، فإنها حينئذ إذا عوفيت من وباء الرياء وتشويه العجب لم تعد أن تكون جسما بلا روح وشجرة بلا ثمر بل إنهم هم الذين يرتاحون إليها ويعدون وقتها أسعد أوقاتهم وأفضل أعمارهم