وأما حمل الأخبار الآمرة بالقصر، معينا على التقية، أو حمل أخبار التمام بملاحظة بعض الأخبار على التقية. فتوضيح الكلام ببيان مقدمة هي:
إن مذهب أبي حنيفة هو القصر مطلقا، ومذهب جماعة آخرين، وهو التخيير بين القصر والاتمام مطلقا، مع أفضلية الاتمام لما فيه من تحمل المشقة، إلا أن الأمر بالقصر، ليس للتبعية عن أبي حنيفة، كما أن الأمر بالاتمام، ليس لموافقة الآخرين، بشهادة صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج، " قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام) إن هشاما روى عنك إنك أمرته بالتمام في الحرمين وذلك من أجل الناس، قال (عليه السلام): لا، كنت أنا وآبائي إذا وردنا مكة، أتممنا الصلاة واستترنا من الناس " (1). فيعلم منه أن الاتمام في الحرمين، على خلاف الناس، ولذا كانوا (عليهم السلام) يستترون منهم. والسر في ذلك والله أعلم أن اختصاص الحرمين بمزية التخيير وأفضلية الاتمام، لم ترد به آية ولا رواية عن النبي (صلى الله عليه وآله)، بل لم يكن منه أثر إلى زمان الصادق (عليه السلام)، ولذا لا تجد في الأخبار مع كثرتها رواية به عن الباقر (عليه السلام) الذي يستند إليه أدلة الأحكام غالبا، وعمل الأئمة وشيعتهم على القصر في هذه المواطن كغيرها.
فالاتمام في خصوص هذه المواطن، جهارا معرض للتشنيع، فإنه عمل لا دليل عليه من الكتاب والسنة النبوية عند الجمهور، فلذا كانوا يستترون عن الناس دفعا للتشنيع، وأمروا شيعتهم واجلاء أصحابهم بالتقصير لهذه الجهة، لا لأجل موافقة أبي حنيفة، لأجله جعلوا الاتمام من مخزون علم الله، ومن الأمر المذخور، وأمروا به أحيانا، إظهارا للحق. وربما علموا بعض شيعتهم طريق دفع التشنيع. حيث قال (عليه السلام) في مكاتبة إبراهيم بن شيبة: " كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يحب إكثار الصلاة في الحرمين، فأكثر فيهما وأتم " (2). فكان الاتمام، نوع من إكثار الصلاة.