يتكلمون ويبرزون مقاصدهم بالألفاظ (1).
وقد أشار إلى وجه آخر في رجوع الوضع إليه تعالى: وهو أن دلالة لفظ خاص على معنى مخصوص ليس باقتراح صرف وبلا موجب، بل لابد وأن تكون لمناسبة وحيثية بينهما; حذرا من الترجيح بلا مرجح، ولا يلزم أن تكون تلك الجهة راجعة إلى ذات اللفظ; حتى تكون دلالة الألفاظ على معانيها ذاتية، كما ينسب ذلك إلى عباد بن سليمان، بل لابد وأن تكون جهة اقتضت تأدية معنى الإنسان بلفظ «الإنسان» مثلا، ومعنى الحيوان بلفظ «الحيوان»، ولا يعلم تلك الجهة إلا الله تعالى، فوضع غيره تعالى اللفظ لمعنى يوجب الترجيح بلا مرجح، أو ترجيح المرجوح على الراجح (2).
وفيه أولا: أنه لو تم ما ذكره، فإنما هو فيما لو كان واضع جميع الألفاظ لمعانيها شخصا واحدا في برهة محدودة من الزمان، ولكن التأمل الصادق يفيد عدم كون واضع ألفاظ كل لغة شخصا واحدا، بل أشخاصا ورجالا كثيرة; وذلك لأن الناس في بدء حياتهم كانوا يسكنون البوادي والصحاري وكانوا في غاية البساطة من حيث الحياة والمعيشة والروابط الاجتماعية، وبحسبها كان احتياجهم إلى إبراز مقاصدهم محدودا محصورا; ولذا ترى أن معرفة البدوي باللغات أقل من القروي، والقروي أقل ممن يسكن البلدان، والساكنين في البلاد الصغيرة أقل من ساكني البلاد الكبيرة، وهكذا... وليس ذلك إلا لقلة الاحتياج وكثرته، فكلما تشعبت وانبسطت طلبات البشر وحوائجهم في طي القرون والأعصار كثرت الأوضاع واللغات، وكلما اتسع التمدن البشري، وتكامل في أطواره وشؤونه - مدى الأعوام والقرون - تكاملت واتسعت لغاته.
وبالجملة: كلما كثرت حوائج البشر، وتنامت أفراده بمرور الزمان، وتنوعت