إلا يحيى بن زكريا فإنه كان سيدا وحصورا ونبيا من الصالحين " ثم أهوى النبي صلى الله عليه وسلم إلى قذاة من الأرض فأخذها وقال: " وكان ذكره مثل هذه القذاة ".
وقد قال القاضي عياض في كتابه الشفاء: اعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى أنه كان " حصورا " ليس كما قاله بعضهم إنه كان هيوبا أو لا ذكر له بل قد أنكر هذا حذاق المفسرين ونقاد العلماء وقالوا: هذه نقيصة وعيب ولا يليق بالأنبياء عليهم السلام وإنما معناه أنه معصوم من الذنوب أي لا يأتيها كأنه حصور عنها وقيل: مانعا نفسه من الشهوات وقيل ليست له شهوة في النساء وقد بان لك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص وإنما الفضل في كونها موجودة ثم يمنعها إما بمجاهدة كعيسى أو بكفاية من الله عز وجل كيحيى عليه السلام ثم هي في حق من قدر عليها وقام بالواجب فيها ولم تشغله عن ربه: درجة عليا وهي درجة نبينا صلى الله عليه وسلم الذي لم يشغله كثرتهن عن عبادة ربه بل زاده ذلك عبادة بتحصينهن وقيامه عليهن وإكسابه لهن وهدايته إياهن بل قد صرح أنها ليست من حظوظ دنياه هو وإن كانت من حظوظ دنيا غيره فقال: " حبب إلي من دنياكم " هذا لفظه. والمقصود أنه مدح ليحيى بأنه حصور ليس أنه لا يأتي النساء بل معناه كما قاله هو وغيره: أنه معصوم من الفواحش والقاذورات ولا يمنع ذلك من تزويجه بالنساء الحلال وغشيانهن وإيلادهن بل قد يفهم وجود النسل له من دعاء زكريا المتقدم حيث قال: " هب لي من لدنك ذرية طيبة " كأنه قال ولدا له ذرية ونسل وعقب والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقوله " ونبيا من الصالحين " هذه بشارة ثانية بنبوة يحيى بعد البشارة بولادته وهى أعلى من الأولى كقوله لام موسى " إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين " فلما تحقق زكريا عليه السلام هذه البشارة وأخذ يتعجب من وجود الولد منه بعد الكبر " قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال " أي الملك " كذلك الله يفعل ما يشاء " أي هكذا أمر الله عظيم لا يعجزه شئ ولا يتعاظمه أمر " قال رب اجعل لي آية " أي علامة أستدل بها على وجود الولد مني " قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا " أي إشارة لا تستطيع النطق مع أنك سوي صحيح كما في قوله " ثلاث ليال سويا " ثم أمر بكثرة الذكر والتكبير والتسبيح في هذه الحال فقال تعالى " أذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والابكار ". وسيأتي طرف آخر في بسط هذا المقام في أول سورة مريم إن شاء الله تعالى.
وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين (42) يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين (43) ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون (44) هذا إخبار من الله تعالى بما خاطبت به الملائكة مريم عليها السلام عن أمر الله لهم بذلك أن الله قد اصطفاها أي اختارها لكثرة عبادتها وزهادتها وشرفها وطهارتها من الأكدار والوساوس واصطفاها ثانيا مرة بعد مرة لجلالتها على نساء العالمين. قال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب في قوله تعالى " إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين " قال: كان أبو هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " خير نساء ركبن الإبل نساء قريش أحناه على ولد في صغره وأرعاه على زوج في ذات يده ولم تركب مريم بنت عمران بعيرا قط " ولم يخرجه من هذا الوجه سوى مسلم فإنه رواه عن محمد بن رافع وعبد بن حميد كلاهما عن عبد الرزاق به. وقال هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن جعفر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى يقول: " خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد ". أخرجاه في الصحيحين من حديث هشام به مثله وقال الترمذي:
حدثنا أبو بكر بن زنجويه حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون " تفرد به الترمذي