فخرجت نار من عند الله فأحرقتهم وهذا أيضا إسرائيلي منكر كالذي قبله والله أعلم. قال ابن جريج إنما تكلموا بما أعلمهم الله أنه كائن من خلق آدم فقالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء. قال ابن جرير: وقال بعضهم إنما قالت الملائكة ما قالت أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء لان الله أذن لهم في السؤال عن ذلك بعد ما أخبرهم أن ذلك كائن من بني آدم فسألته الملائكة فقالت على التعجب منها وكيف يعصونك يا رب وأنت خالقهم، فأجابهم ربهم " إني أعلم ما لا تعلمون " يعني أن ذلك كائن منهم وإن لم تعلموه أنتم ومن بعض ما ترونه لي طائعا. قال:
وقال بعضهم ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عما لم يعلموا من ذلك فكأنهم قالوا يا رب خبرنا - مسألة استخبار منهم لا على وجه الانكار - واختاره ابن جرير، وقال سعيد عن قتادة قوله تعالى " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة " قال استشار الملائكة في خلق آدم فقالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء - وقد علمت الملائكة أنه لا شئ أكره عند الله من سفك الدماء والفساد في الأرض - ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك.
قال إني أعلم ما لا تعلمون. فكان في علم الله أنه سيكون من تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنوا الجنة قال وذكر لنا عن ابن عباس أنه كان يقول: إن الله لما أخذ في خلق آدم عليه السلام قالت الملائكة ما الله خالق خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم منا فابتلوا بخلق آدم وكل خلق مبتلى كما ابتليت السماوات والأرض بالطاعة فقال الله تعالى " ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين " وقوله تعالى " ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ". قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: التسبيح التسبيح والتقديس الصلاة. وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال: يقولون نصلي لك. وقال مجاهد: ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك. قال: نعظمك ونكبرك. وقال الضحاك: التقديس التطهير. وقال محمد بن إسحاق: ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك. قال: لا نعصي ولا نأتي شيئا تكرهه. وقال ابن جرير:
التقديس هو التعظيم والتطهير. ومنه قولهم سبوح قدوس يعني بقولهم سبوح تنزيه له، وبقولهم قدوس طهارة وتعظيم له: وكذلك قيل للأرض أرض مقدسة يعني بذلك المطهرة. فمعنى قول الملائكة إذا " ونحن نسبح بحمدك " ننزهك ونبرئك مما يضيفه إليك أهل الشرك بك " ونقدس لك " ننسبك إلى ما هو من صفاتك من الطهارة من الأدناس وما أضاف إليك أهل الكفر بك. وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي الكلام أفضل؟ قال " ما اصطفى الله لملائكته سبحان الله وبحمده " وروى البيهقي عن عبد الرحمن بن قرط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به سمع تسبيحا في السماوات العلا " سبحان العلي الاعلى سبحانه وتعالى " " قال إني أعلم ما لا تعلمون " قال قتادة فكان في علم الله أنه سيكون في تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنوا الجنة، وسيأتي عن ابن مسعود وابن عباس وغير واحد من الصحابة والتابعين أقوال في حكمة قوله تعالى قال " إني أعلم ما لا تعلمون ".
وقد استدل القرطبي وغيره بهذه الآية على وجوب نصب الخليفة ليفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه ويقطع تنازعهم وينتصر لمظلومهم من ظالمهم ويقيم الحدود ويزجر عن تعاطي الفواحش إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا تمكن إقامتها إلا بالامام وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. والإمامة تنال بالنص كما يقوله طائفة من أهل السنة في أبي بكر أو بالايماء إليه كما يقول آخرون منهم أو باستخلاف الخليفة آخر بعده كما فعل الصديق بعمر بن الخطاب أو بتركه شورى في جماعة صالحين كذلك كما فعله عمر أو باجتماع أهل الحل والعقد على مبايعته أو بمبايعته واحد منهم له فيجب التزامها عند الجمهور وحكى على ذلك إمام الحرمين الاجماع والله أعلم. أو بقهر واحد الناس على طاعته فتجب لئلا يؤدي ذلك إلى الشقاق والاختلاف، وقد نص عليه الشافعي وهل يجب الاشهاد على عقد الإمامة؟ فيه خلاف فمنهم من قال لا يشترط وقيل بلى ويكفي شاهدان. وقال الجبائي يجب أربعة وعاقد ومعقود له كما ترك عمر رضي الله عنه الامر شورى بين ستة فوقع الامر على عاقد وهو عبد الرحمن بن عوف ومعقود له وهو عثمان، واستنبط وجوب الأربعة الشهود من الأربعة الباقين في هذا نظر والله أعلم.