وقد تحداهم الله تعالى بهذا في غير موضع من القرآن فقال في سورة القصص " قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين " وقال في سورة سبحان " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا " وقال في سورة هود " أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين " وقال في سورة يونس " وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين * أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة من مثله وأدعو من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين " وكل هذه الآيات مكية، ثم تحداهم بذلك أيضا في المدينة فقال في هذه الآية " وإن كنتم في ريب " أي شك " مما نزلنا على عبدنا " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم " فأتوا بسورة من مثله " يعني من مثل القرآن، قاله مجاهد وقتادة واختاره ابن جرير والطبري والزمخشري والرازي ونقله عن عمر وابن مسعود وابن عباس والحسن البصري وأكثر المحققين، ورجح ذلك بوجوه من أحسنها أنه تحداهم كلهم متفرقين ومجتمعين سواء في ذلك أميهم وكتابيهم وذلك أكمل في التحدي وأشمل من أن يتحدى آحادهم الأميين ممن لا يكتب ولا يعاني شيئا من العلوم وبدليل قوله تعالى " فأتوا بعشر سور مثله " وقوله لا يأتون بمثله. وقال بعضهم من مثل محمد صلى الله عليه وسلم يعني من رجل أمي مثله. والصحيح الأول لان التحدي عام لهم كلهم مع أنهم أفصح الأمم وقد تحداهم بهذا في مكة والمدينة مرات عديدة مع شدة عداوتهم له وبغضهم لدينه، ومع هذا أعجزوا عن ذلك ولهذا قال تعالى " فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا " لن لنفي التأبيد في المستقبل أي ولن تفعلوا ذلك أبدا وهذه أيضا معجزة أخرى، وهو أنه أخبر خبرا جازما قاطعا مقدما غير خائف ولا مشفق أن هذا القرآن لا يعارض بمثله أبد الآبدين ودهر الداهرين وكذلك وقع الامر لم يعارض من لدنه إلى زماننا هذا ولا يمكن، وأني يتأتى ذلك لاحد والقرآن كلام الله خالق كل شئ، وكيف يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الاعجاز فنونا ظاهرة وخفية من حيث اللفظ ومن جهة المعنى قال الله تعالى " الر * كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير " فأحكمت ألفاظه وفصلت معانيه أو بالعكس على الخلاف فكل من لفظه ومعناه فصيح لا يحادي ولا يداني، فقد أخبر عن مغيبات ماضية كانت ووقعت طبق ما أخبر سواء بسواء وأمر بكل خير ونهى عن كل شر كما قال تعالى " وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا " أي صدقا في الاخبار وعدلا في الاحكام فكله حق وصدق وعدل وهدى ليس فيه مجازفة ولا كذب ولا افتراء كما يوجد في أشعار العرب وغيرهم من الأكاذيب والمجازفات التي لا يحسن شعرهم إلا بها كما قيل في الشعر إن أعذبه أكذبه. وتجد القصيدة الطويلة المديدة قد استعمل غالبها في وصف النساء أو الخيل أو الخمر أو في مدح شخص معين أو فرس أو ناقة أو حرب أو كائنة أو مخافة أو سبع أو شئ من المشاهدات المتعينة التي لا تفيد شيئا إلا قدرة المتكلم المعين على الشئ الخفي أو الدقيق أو إبرازه إلى الشئ الواضح ثم تجد له فيه بيتا أو بيتين أو أكثر هي بيوت القصيد، وسائرها هذر لا طائل تحته، وأما القرآن فجميعه فصيح في غاية نهايات البلاغة عند من يعرف ذلك تفصيلا وإجمالا ممن فهم كلام العرب وتصاريف التعبير، فإنه إن تأملت أخباره وجدتها في غاية الحلاوة سواء كانت مبسوطة أو وجيزة، وسواء تكررت أم لا، وكلما تكررت حلا وعلا، لا يخلق عن كثرة الرد، ولا يمل منه العلماء، وإن أخذ في الوعيد والتهديد جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصم الراسيات فما ظنك بالقلوب الفاهمات وإن وعد أتى بما يفتح القلوب والآذان، ويشوق إلى دار السلام ومجاورة عرش الرحمن كما قال في الترغيب " فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون " وقال " فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون " وقال في الترهيب " أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر " و " أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور * أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير " وقال في الزجر: " فكلا أخذنا بذنبه " وقال في الوعظ " أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون " إلى غير ذلك من أنواع الفصاحة والبلاغة والحلاوة، وإن جاءت الآيات في الاحكام والأوامر والنواهي اشتملت على الامر بكل معروف حسن نافع طيب محبوب، والنهي عن كل قبيح رذيل دنئ، كما قال ابن
(٦٣)