الطريق، ولما ذكر الله تعالى هذه الطريقة الدقيقة في الإلزام في القرآن، لا جرم وصف القرآن بالكمال والفضل، فقال: * (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكروا أولوا الألباب) * فإن من لم يتدبر ولم يتأمل ولم يساعده التوفيق الإلهي لم يقف على هذه الأسرار العجيبة المذكورة في هذا القرآن العظيم، حيث يراه في ظاهر الحال مقرونا بسوء الترتيب، وهو في الحقيقة مشتمل على أكمل جهات الترتيب، فهذا ما حضرنا في تفسير هذه الآيات، وبالله التوفيق.
قوله تعالى * (ووهبنا لداوود سليم ان نعم العبد إنه أواب * إذ عرض عليه بالعشى الصافنات الجياد * فقال إنى أحببت حب الخير عن ذكر ربى حتى توارت بالحجاب * ردوها على فطفق مسحا بالسوق والاعناق) * واعلم أن هذا هو القصة الثانية وقوله: * (نعم العبد) * فيه مباحث:
الأول: نقول المخصوص بالمدح في * (نعم العبد) * محذوف، فقيل هو سليمان، وقيل داود، والأول أولى لأنه أقرب المذكورين، ولأنه قال بعده * (إنه أواب) * ولا يجوز أن يكون المراد هو داود، لأن وصفه بهذا المعنى قد تقدم في الآية المتقدمة حيث قال: * (واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب) * (ص: 17) فلو قلنا لفظ الأواب ههنا أيضا صفة داود لزم التكرار، ولو قلنا إنه صفة لسليمان لزم كون الابن شبيها لأبيه في صفات الكمال في الفضيلة، فكان هذا أولى.
الثاني: أنه قال أولا * (نعم العبد) * ثم قال بعده * (إنه أواب) * وهذه الكلمة للتعليل، فهذا يدل على أنه إنما كان * (نعم العبد) * لأنه كان أوابا، فيلزم أن كل من كان كثير الرجوع إلى الله تعالى في أكثر الأوقات وفي أكثر المهمات كان موصوفا بأنه * (نعم العبد) * وهذا هو الحق الذي لا شبهة فيه، لأن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به، ورأس المعارف ورئيسها معرفة الله تعالى، ورأس الطاعات ورئيسها الاعتراف بأنه لا يتم شيء من الخيرات إلا بإعانة الله تعالى، ومن كان كذلك كان كثير الرجوع إلى الله تعالى فكان أوابا، فثبت أن كل من كان أوابا وجب أن يكون * (نعم العبد) *.
أما قوله: * (إذ عرض عليه) * ففيه وجوه الأول: التقدير * (نعم العبد) * هو إذ كان من أعماله أنه فعل كذا الثاني: أنه ابتداء كلام. والتقدير أذكر يا محمد إذ عرض عليه كذا وكذا، والعشي