" اكتب فهكذا أنزلت " فازداد عمر إيمانا على إيمان وازداد ذلك الإنسان كفرا على كفر، إذا عرفت هذا لم يبعد أيضا أن يكون ذكر الله يوجب النور والهداية والاطمئنان في النفوس الطاهرة الروحانية، ويوجب القسوة والبعد عن الحق في النفوس الخبيثة الشيطانية، إذا عرفت هذا فنقول إن رأس الأدوية التي تفيد الصحة الروحانية ورئيسها هو ذكر الله تعالى، فإذا اتفق لبعض النفوس أن صار ذكر الله تعالى سببا لازدياد مرضها كان مرض تلك النفس مرضا لا يرجى زواله ولا يتوقع علاجه وكانت في نهاية الشر والرداءة، فلهذا المعنى قال تعالى: * (فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين) * وهذا كلام كامل محقق، ولما بين تعالى ذلك أردفه بما يدل على أن القرآن سبب لحصول النور والشفاء والهداية وزيادة الاطمئنان، والمقصود منه بيان أن القرآن لما كان موصوفا بهذه الصفات، ثم إنه في حق ذلك الإنسان صار سببا لمزيد القسوة دل ذلك على أن جوهر تلك النفس قد بلغ في الرداءة والخساسة إلى أقصى الغايات، فنقول إنه تعالى وصف القرآن بأنواع من صفات الكمال.
الصفة الأولى: قوله تعالى: * (الله نزل أحسن الحديث) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: القائلون بحدوث القرآن احتجوا بهذه الآية من وجوه: الأول: أنه تعالى وصفه بكونه حديثا في هذه الآيات وفي آيات أخرى منها قوله تعالى: * (فليأتوا بحديث مثله) * (الطور: 34) ومنها قوله تعالى: * (أفبهذا الحديث أنتم مدهنون) * (الواقعة: 81) والحديث لا بد وأن يكون حادثا، قالوا بل الحديث أقوى في الدلالة على الحدوث من الحادث لأنه يصح أن يقال هذا حديث وليس بعتيق، وهذا عتيق وليس بحادث، فثبت أن الحديث هو الذي يكون قريب العهد بالحديث، وسمي الحديث حديثا لأنه مؤلف من الحروف والكلمات، وتلك الحروف والكلمات تحدث حالا فحالا وساعة فساعة، فهذا تمام تقرير هذا الوجه.
أما الوجه الثاني: في بيان استدلال القوم أن قالوا: إنه تعالى وصفه بأنه نزله والمنزل يكون في محل تصرف الغير. وما يكون كذلك فهو محدث وحادث.
وأما الوجه الثالث: في بيان استدلال القوم أن قالوا: إن قوله أحسن الحديث يقتضي أن يكون هو من جنس سائر الأحاديث كما أن قوله زيد أفضل الإخوة يقتضي أن يكون زيد مشاركا لأولئك الأقوام في صفة الأخوة ويكون من جنسهم، فثبت أن القرآن من جنس سائر الأحاديث، ولما كان سائر الأحاديث حادثة وجب أيضا أن يكون القرآن حادثا.
أما الوجه الرابع: في الاستدلال أن قالوا: إنه تعالى وصفه بكونه كتابا والكتاب مشتق من الكتبة وهي الاجتماع، وهذا يدل على أنه مجموع جامع ومحل تصرف متصرف. وذلك يدل على كونه محدثا والجواب: أن نقول نحمل هذا الدليل على الكلام المؤلف من الحروف والأصوات والألفاظ والعبارات، وذلك الكلام عندنا محدث مخلوق والله أعلم.