وهارون بعث معه بطلبه حيث قال: * (فأرسله معي) * (القصص: 34) فكان هارون مبعوثا ليصدق موسى فيما يقول ويقوم بما يأمره، وأما هما فكل واحد مستقل ناطق بالحق فكان هناك المقصود تقوية موسى وإرسال من يؤنس معه وهو هارون، وأما ههنا فالمقصود تقوية الحق فظهر الفرق.
* (قالوا مآ أنتم إلا بشر مثلنا ومآ أنزل الرحمن من شىء إن أنتم إلا تكذبون) * ثم بين الله ما جرى منهم وعليهم مثل ما جرى من محمد صلى الله عليه وسلم وعليه فقالوا: * (إنا إليكم مرسلون) * (يس: 14) كما قال: * (إنك لمن المرسلين) * (يس: 3) وبين ما قال القوم بقوله: * (قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء) * جعلوا كونهم بشرا مثلهم دليلا على عدم الإرسال، وهذا عام من المشركين قالوا في حق محمد: * (أأنزل عليه الذكر) * (ص: 8) وإنما ظنوه دليلا بناء على أنهم لم يعتقدوا في الله الاختيار، وإنما قالوا فيه أنه موجب بالذات وقد استوينا في البشرية فلا يمكن الرجحان، والله تعالى رد عليهم قولهم بقوله: * (الله أعلم حيث يجعل رسالته) * (الأنعام: 124) وبقوله: * (الله يجتبي إليه من يشاء) * (الشورى: 13) إلى غير ذلك، وقوله: * (ما أنزل الرحمن من شيء) * يحتمل وجه أحدهما: أن يكون متمما لما ذكروه فيكون الكل شبهة واحدة، ووجهه هو أنهم قالوا أنتم بشر فما نزلتم من عند الله وما أنزل الله إليكم أحدا، فكيف صرتم رسلا لله؟ ثانيهما: أن يكون هذا شبهة أخرى مستقلة ووجه هو أنهم لما قالوا أنتم بشر مثلنا فلا يجوز رجحانكم علينا ذكروا الشبهة من جهة النظر إلى المرسلين، ثم قالوا شبهة أخرى من جهة المرسل، وهو أنه تعالى ليس بمنزل شيئا في هذا العالم، فإنه تصرفه في العالم العلوي وللعلويات التصرف في السفليات على مذهبهم، فالله تعالى لم ينزل شيئا من الأشياء في الدنيا فكيف أنزل إليكم، وقوله: * (الرحمن) * إشارة إلى الرد عليهم، لأن الله لما كان رحمن الدنيا والإرسال رحمة، فكيف لا ينزل رحمته وهو رحمن، فقال إنهم قالوا: ما أنزل الرحمن شيئا، وكيف لا ينزل الرحمن مع كونه رحمن شيئا، هو الرحمة الكاملة.
ثم قال تعالى: * (إن أنتم إلا تكذبون) * أي ما أنتم إلا كاذبين.
* (قالوا ربنا يعلم إنآ إليكم لمرسلون) * إشارة إلى أنه بمجرد التكذيب لم يسأموا ولم يتركوا، بل أعادوا ذلك لهم وكرروا القول عليهم وأكدوه باليمين وقالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون وأكدوه باللام، لأن يعلم الله يجري مجرى القسم، لأن من يقول يعلم الله فيما لا يكون قد نسب الله إلى الجهل وهو سبب العقاب، كما أن الحنث سببه، وفي قوله: * (ربنا يعلم) * إشارة إلى الرد عليهم حيث قالوا أنتم بشر، وذلك لأن الله إذا كان يعلم أنهم لمرسلون، يكون كقوله تعالى: * (الله أعلم حيث يجعل رسالته) * (الأنعام: 124) يعني هو عالم بالأمور وقادر فاختارنا بعلمه ورسالته