أنه بالحس يشاهد الأسباب المفضية إلى المسببات في هذا العالم، قلنا ليس المراد من إعراض القلب عنها أن يقضي عليها بالعدم فإن ذلك دخول في السفسطة وهو باطل، بل المراد أن يعرف أن واجب الوجود لذاته واحد، وأن كل ما سواه فإنه ممكن الوجود لذاته وكل ما كان ممكنا لذاته فإنه لا يوجد إلا بتكوين الواجب وإيجاده، ثم إنه سبحانه وتعالى جعل تكوينه للأشياء على قسمين منها ما يكون بغير واسطة وهي عالم السماوات والروحانيات، ومنها ما يكون بواسطة وهو عالم العناصر والعالم الأسفل، فإذا عرفت الأشياء على هذا الوجه عرفت أن الكل لله ومن الله وبالله، وأنه لا مدبر إلا هو ولا مؤثر غيره، وحينئذ ينقطع نظره عن هذه الممكنات ويبقى مشغول القلب بالمؤثر الأول والموجد الأول، فإنه إن كان قد وضع الأسباب الروحانية والجسمانية بحيث يتأذى إلى هذا المطلوب، فهذا الشيء يحصل وإن كان قد وضع بحيث لا يفضي إلى حصول هذا الشيء لم يحصل، وبهذا الطريق ينقطع نظره عن الكل ولا يبقى في قلبه التفات إلى شيء إلا إلى الموجود الأول، وقد اتفق أني كنت أنصح بعض الصبيان في حفظ العرض والمال فعارضني وقالا يجوز الاعتماد على الجد والجهد بل يجب الاعتماد على قضاء الله وقدره، فقلت هذه كلمة حق سمعتها ولكنك ما عرفت معناها، وذلك لأنه لا شبهة أن الكل من الله تعالى إلا أنه سبحانه دبر الأشياء على قسمين منها ما جعل حدوثه وحصوله معلقا بأسباب معلومة ومنها ما يحدثه من غير واسطة هذه الأسباب.
أما القسم الأول: فهو حوادث هذا العالم الأسفل.
وأما القسم الثاني: فهو حوادث هذا العالم الأعلى، وإذا ثبت هذا فنقول من طلب حوادث هذا العالم الأسفل لا من الأسباب التي عينها الله تعالى كان هذا الشخص منازعا لله في حكمته مخالفا في تدبيره، فإن الله تعالى حكم بحدوث هذه الأشياء بناء على تلك الأسباب المعينة المعلومة وأنت تريد تحصيلها لا من تلك الأسباب، فهذا هو الكلام في تحقيق الإعراض عن غير الله والإقبال بالكلية على الله تعالى فقوله تعالى: * (والذين اجتنبوا الطاغوت) * إشارة إلى الإعراض عن غير الله وقوله تعالى: * (وأنابوا إلى الله) * إشارة إلى الإقبال بالكلية على عبادة الله، ثم إنه تعالى وعد هؤلاء بأشياء أحدها: قوله تعالى: * (لهم البشرى) * واعلم أن هذه الكلمة تتعلق بجهات أحدها: أن هذه البشارة متى تحصل؟ فنقول إنها تحصل عند القرب من الموت وعند الوضع في القبر وعند الوقوف في عرصة القيامة وعندما يصير فريق في الجنة وفريق في السعير وعندما يدخل المؤمنون الجنة، ففي كل موقف من هذه المواقف تحصل البشارة بنوع من الخير والروح والرحة والريحان وثانيها: أن هذه البشارة فبماذا تحصل؟ فنقول إن هذه البشارة تحصل بزوال المكروهات وبحصول المرادات، أما زوال المكروهات فقوله تعالى: * (ألا تخافوا ولا تحزنوا) * (فصلت: 30) والخوف إنما يكون من المستقبل والحزن إنما يكون بسبب الأحوال الماضية فقوله: * (أن