فقال: يا داود أنت أحق أن نضرب منك هذا وهذا، وأنت فعلت كيت وكيت، ثم نظر داود فلم ير أحدا فعرف الحال، فإن قيل كيف جاز لداود أن يحكم على أحد الخصمين بمجرد قول خصمه؟ قلنا ذكروا فيه وجوها الأول: قال محمد بن إسحاق: فما فرغ الخصم الأول من كلامه نظر داود إلى الخصم الذي لم يتكلم وقال لئن صدق لقد ظلمته، والحاصل أن هذا الحكم كان مشروطا بشرط كونه صادقا في دعواه والثاني: قال ابن الأنباري: لما ادعى أحد الخصمين اعترف الثاني فحكم داود عليه السلام ولم يذكر الله تعالى ذلك الاعتراف لدلالة ظاهر الكلام عليه، كما تقول أمرتك بالتجارة فكسبت تريد اتجرت فكسبت، وقال تعالى: * (أن اضرب بعصاك البحر فانفلق) * (الشعراء: 63) أي فضرب فانفلق، والثالث: أن يكون التقدير أن الخصم الذي هذا شأنه يكون قد ظلمك.
ثم قال تعالى: * (وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض) * قال: الليث خليط الرجل مخالطه، وقال الزجاج: الخلطاء الشركاء، فإن قيل لم خص داود الخلطاء يبغي بعضهم على بعض مع أن غير الخلطاء قذ يفعلون ذلك، والجواب لا شك أن المخالطة توجب كثرة المنازعة والمخاصمة، وذلك لأنهما إذا اختلطا اطلع كل واحد منهما على أخوال الآخر فكل ما يملكه من الأشياء النفيسة إذا اطلع عليه عظمت رغبته فيه، فيفضي ذلك إلى زيادة المخاصمة والمنازعة، فلهذا السبب خص داود عليه السلام الخلطاء بزيادة البغي والعدوان، ثم استثنى عن هذا الحكم الذي آمنوا وعلموا الصالحات لأن مخالطة هؤلاء لا تكون إلا لأجل الدين وطلب السعادات الروحانية الحقيقية، فلا جرم مخالطتهم لا توجب المنازعة، وأما الذين تكون مخالطتهم لأجل حب الدنيا لا بد وأن تصير مخالطتهم سببا لمزيد البغي والعدوان، واعلم أن هذا الاستثناء يدل على أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا يبغي بعضهم على بعض، فلو كان داود عليه السلام قد بغى وتعدى على ذلك الرجل لزم بحكم فتوى داود أن لا يكون من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ومعلوم أن ذلك باطل، فثبت أن قول من يقول المراد من واقعة النعجة قصة داود قوله باطل.
ثم قال تعالى: * (وقيل ما هم) * واعلم أن الحكم بقلة أهل الخير كثير في القرآن، قال تعالى: * (وقليل من عبادي الشكور) * (سبأ: 13) وقال داود عليه السلام في هذا الموضع * (وقليل ما هم) * وحكى تعالى عن إبليس أنه قال: * (ولا تجد أكثرهم شاكرين) * (الأعراف: 17) وسبب القلة أن الدواعي إلى الدنيا كثيرة، وهي الحواس الباطنة والظاهرة وهي عشرة والشهود والغضب والقوى الطبيعية السبعة فالمجموع تسعة عشر واقفون على باب جهنم البدن، وكلها تدعو إلى الخلق والدنيا واللذة الحسية، وأما الداعي إلى الق والدين فليس إلا العقل واستيلاء القوة الحسية والطبيعية على الخلق أكثر من القوة العقلية فيهم، فلهذا السبب وقعت القلة في جانب أهل الخير والكثرة في جانب أهل الشر، قال صاحب " الكشاف " وما في قوله: * (وقيل ما هم) * للإبهام وفيه تعجب من قلتهم، قال وإذا أردت أن تتحقق فائدتها وموقعها فاطرحها من قول امرئ القيس؛ وحديث ما على قصره - - - - وانظر هل بقي له معنى قط.
ثم قال تعالى: * (وظن داود أنما فتناه) * قالوا معناه وعلم داود أنما فتناه أي امتحناه، قالوا