وأتمه شرع في قطع عذر آخر، وهو أن الكافر يقول لم يكن لبثنا في الدنيا إلا يسيرا، ولو عمرتنا لما وجدت منا تقصيرا، فقال الله تعالى: * (أفلا تعقلون أنكم كلما دخلتم في السن ضعفتم وقد عمرناكم مقدار ما تتمكنون من البحث والإدراك، كما قال تعالى: * (أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر) * (فاطر: 37) ثم إنكم علمتم أن الزمان كلما يعبر علكيم يزداد ضعفكم فضيعتم زمان الإمكان، فلو عمرناكم أكثر من ذلك لكان بعده زمان الإزمان، ومن لم يأت بالواجب زمان الإمكان ما كان يأتي به زمان الإزمان.
* (وما علمناه الشعر وما ينبغى له إن هو إلا ذكر وقرءان مبين) * في الترتيب وجهان، قد ذكرنا أن الله في كل موضع ذكر أصلين من الأصول الثلاثة، وهي الوحدانية والرسالة والحشر، ذكر الأصل الثالث منها، وههنا ذكر الأصلين الوحدانية والحشر، أما الوحدانية ففي قوله تعالى: * (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان) * (يس: 60) وفي قوله: * (وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم) * (يس: 61) وأما الحشر ففي قوله تعالى: * (اصلوها اليوم) * (يس: 64) وفي قوله: * (اليوم نختم على أفواههم) * (يس: 65) إلى غير ذلك، فلما ذكرهما وبينهما ذكر الأصل الثالث وهو الرسالة فقال: * (وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين) * وقوله: * (وما علمناه الشعر) * إشارة إلى أنه معلم من عند الله فعلمه ما أراد ولم يعلمه ما لم يرد، وفي تفسير الآية مباحث:
البحث الأول: خص الشعر بنفي التعليم، مع أن الكفار كانوا ينسبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم أشياء من جملتها السحر، ولم يقل وما علمناه السحر وكذلك كانوا ينسبونه إلى الكهانة، ولم يقل وما علمناه الكهانة، فنقول: أما الكهانة فكانوا ينسبون النبي صلى الله عليه وسلم إليها عندما كان يخبر عن الغيوب ويكون كما يقول. وأما السحر: فكانوا ينسبونه إليه عندما كان يفعل ما لا يقدر عليه الغير كشق القمر وتكلم الحصى والجذع وغير ذلك. وأما الشعر: فكانوا ينسبونه إليه عندما كان يتلوا القرآن عليهم لكنه صلى الله عليه وسلم ما كان يتحدى إلا بالقرآن، كما قال تعالى: * (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله) * (البقرة: 23) إلى غير ذلك، ولم يقل إن كنتم في شك من رسالتي فأنطقوا الجذوع أو أشبعوا الخلق العظيم أو أخبروا بالغيوب، فلما كان تحديه صلى الله عليه وسلم بالكلام وكانوا ينسبونه إلى الشعر عند الكلام خص الشعر بنفي التعليم.
البحث الثاني: ما معنى قوله: * (وما ينبغي له) * قلنا: قال قوم ما كان يتأتي له، وآخرون ما يتسهل له حتى أنه إن تمثل بيت شعر سمع منه مزاحفا يروي أنه كان يقول صلى الله عليه وسلم: " ويأتيك من لم تزود بالأخبار ". وفيه وجه أحسن من ذلك وهو أن يحمل ما ينبغي له على مفهومه الظاهر وهو أن الشعر ما كان يليق به ولا يصلح له، وذلك لأن الشعر يدعو إلى تغيير