ثم قال تعالى: * (وجعلني من المكرمين) * قد ذكرنا أن الإيمان والعمل الصالح يوجبان أمرين هما الغفران والإكرام كما في قوله تعالى: * (الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ورزق كريم) * (سبأ: 4) والرجل كان من المؤمنين الصلحاء، والكرم على ضد المهان، والإهانة بالحاجة والإكرام بالاستغناء فيغني الله الصالح عن كل أحد ويدفع جميع حاجاته بنفسه.
ثم إنه تعالى لما بين حاله بين حال المتخلفين المخالفين له من قومه بقوله تعالى:
* (ومآ أنزلنا على قومه من بعده من جند من السمآء وما كنا منزلين) * إشارة إلى هلاكهم بعده سريعا على أسهل وجه فإنه لم يحتج إلى إرسال جند يهلكهم، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال ههنا: * (وما أنزلنا) * بإسناد الفعل إلى النفس، وقال في بيان حال المؤمن * (قيل ادخل الجنة) * (يس: 26) بإسناد القول إلى غير مذكور، وذلك لأن العذاب من باب الهيبة فقال بلفظ التعظيم، وأما في: * (ادخل الجنة) * فقال (قيل) ليكون هو كالمهنأ بقول الملائكة حيث يقول له كل ملك وكل صالح يراه ادخل الجنة خالدا فيها، وكثيرا ما ورد في القرآن قوله تعالى: * (وقيل ادخلوا) * إشارة إلى أن الدخول يكون دخولا بإكرام كما يدخل العريس البيت المزين على رؤوس الأشهاد يهنئه كل أحد.
المسألة الثانية: لم أضاف القوم إليه مع أن الرسول أولى بكون الجمع قوما لهم فإن الواحد يكون له قوم هم آله وأصحابه والرسول لكونه مرسلا يكون جميع الخلق وجميع من أرسل إليهم قوما له؟ نقول لوجهين أحدهما: ليبين الفرق بين اثنين هما من قبيلة واحدة أكرم أحدهما غاية الإكرام بسبب الإيمان وأهين الآخر غاية الإهانة بسبب الكفر، وهذا من قوم أولئك في النسب وثانيهما: أن العذاب كان مخصصا بأقارب ذلك، لأن غيرهم من قوم الرسل آمنوا بهم فلم يصبهم العذاب.
المسألة الثانية: خصص عدم الإنزال بما بعده والله تعالى لم ينزل عليهم جندا قبله أيضا فما فائدة التخصيص؟ نقول استحقاقهم العذاب كان بعده حيث أصروا واستكبروا فبين حال الهلاك أنه لم يكن بجند.
المسألة الرابعة: قال: * (من السماء) * وهو تعالى لم ينزل عليهم ولا أرسل إليهم جندا من الأرض فما فائدة التقييد؟ نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما: أن يكون المراد وما أنزلنا عليهم جندا بأمر من السماء فيكون للعموم وثانيهما: أن العذاب نزل عليهم من السماء فبين أن النازل لم يكن جندا لهم عظمة وإنما كان ذلك بصيحة أخمدت نارهم وخربت ديارهم.