الأولى: أن العذاب في الدنيا إن دام كثيرا يقتل فإن لم يقتل يعتاده البدن ويصير مزاجا فاسدا متمكنا لا يحس به المعذب، فقال عذاب نار الآخرة ليس كعذاب الدنيا، إما أن يفني وإما أن يألفه البدن بل هو في كل زمان شديد والمعذب فيه دائم الثانية: راعي الترتيب على أحسن وجه وذلك لأن الترتيب أن لا ينقطع العذاب، ولا يفتر فقال لا ينقطع ولا بأقوى الأسباب وهو الموت حتى يتمنون الموت ولا يجابون كما قال تعالى: * (ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك) * أي بالموت الثالثة: في المعذبين اكتفى بأنه لا ينقص عذابهم، ولم يقل نزيدهم عذابا. وفي المثابين ذكر الزيادة بقوله: * (ويزيدهم من فضله) * ثم لما بين أن عذابهم لا يخفف.
قوله تعالى * (وهم يصطرخون فيها ربنآ أخرجنا نعمل صالحا غير الذى كنا نعمل أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجآءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير) *.
قال تعالى: * (وهم يصطرخون فيها) * أي لا يخفف وإن اصطرخوا واضطربوا لا يخفف الله من عنده إنعاما إلى أن يطلبوه بل يطلبون ولا يجدون والاصطراخ من الصراخ والصراخ صوت المعذب.
وقوله تعالى: * (ربنا أخرجنا) * أي صراخهم بهذا أي يقولون: * (ربنا أخرجنا) * لأن صراخهم كلام وفيه إشارة إلى أن إيلامهم تعذيب لا تأديب، وذلك لأن المؤدب إذا قال لمؤدبه: لا أرجع إلى ما فعلت وبئسما فعلت يتركه، وأما المعذب فلا وترتيبه حسن وذلك لأنه لما بين أنه لا يخفف عنهم بالكلية ولا يعفو عنهم بين أنه لا يقبل منهم وعدا وهذا لأن المحبوس يصير لعله يخرج من غير سؤال فإذا طال لبثه تطلب الإخراج من غير قطيعة على نفسه فإن لم يقده يقطع على نفسه قطيعة ويقول أخرجني أفعل كذا وكذا.
واعلم أن الله تعالى قد بين أن من يكون في الدنيا ضالا فهو في الآخرة ضال كما قال تعالى: * (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى) * ثم إنهم لم يعلموا أن العود إلى الدنيا بعيد محال بحكم الإخبار.
وعلى هذا قالوا: * (نعمل صالحا) * جازمين من غير استعانة بالله ولا مثنوية فهي، ولم يقولوا إن الأمر بيد الله، فقال الله لهم إذا كان اعتمادكم على أنفسكم فقد عمرناكم مقدارا يمكن التذكر فيه والإتيان بالإيمان والإقبال على الأعمال. وقولهم: * (غير الذي كنا نعمل) * إشارة إلى ظهور فساد عملهم ولهم وكأن الله تعالى كما لم يهدهم في الدنيا لم يهدهم في الآخرة، فما قالوا ربنا زدت للمحسنين حسنات بفضلك لا بعلمهم ونحن أحوج إلى تخفيف العذاب منهم إلى تضعيف الثواب فافعل بنا ما أنت أهله نظرا إلى فضلك ولا تفعل بنا ما نحن أهله نظرا إلى عدلك وانظر إلى مغفرتك الهاطلة ولا تنظر إلى معذرتنا الباطلة، وكما هدى الله المؤمن في الدنيا هداه في العقبى حتى دعاه بأقرب دعاء إلى الإجابة وأثنى عليه بأطيب ثناء عند الإنابة فقالوا الحمد لله وقالوا ربنا غفور اعترافا بتقصيرهم شكور إقرارا بوصول ما لم يخطر ببالهم إليهم وقالوا: * (أحلنا دار المقامة من فضله) * أي لا عمل لنا بالنسبة إلى نعم الله وهم قالوا: * (أخرجنا نعمل صالحا) *