ثم قال * (وما علينآ إلا البلاغ المبين) * تسلية لأنفسهم، أي نحن خرجنا عن عهدة ما علينا وحثا على النظر، فإنهم لما قولوا: * (ما علينا إلا البلاغ) * كان ذلك يوجب تفكرهم في أمرهم حيث لم يطلبوا منهم أجرا ولا قصدوا رياسة، وإنما كان شغلهم التبليغ والذكر، وذلك مما يحمل العاقل على النظر و * (المبين) * يحتمل أمورا أحدها: البلاغ المبين للحق عن الباطل، أي الفارق بالمعجزة والبرهان وثانيها: البلاغ المظهر لما أرسلنا للكل، أي لا يكفي أن نبلغ الرسالة إلى شخص أو شخصين وثالثها: البلاغ المظهر للحق بكل ما يمكن، فإذا تم ذلك ولم يقبلوا يحق هنالك الهلاك.
* (قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم) * ثم كان جوابهم بعد هذا أنهم قالوا إنا تطيرنا بكم وذلك أنه لما ظهر من الرسل المبالغة في البلاغ ظهر منهم الغلو في التكذيب، فلما قال المرسلون: * (إنا إليكم مرسلون) * (يس: 14) قالوا: * (إن أنتم إلا تكذبون) * (يس: 15) ولما أكد الرسل قولهم باليمين حيث قالوا: * (ربنا يعلم) * (يس: 16) أكدوا قولهم بالتطير بهم فكأنهم قالوا في الأول كنتم كاذبين، وفي الثاني صرتم مصرين على الكذب، حالفين مقسمين عليه، و " اليمين الكاذبة تدع الديار بلاقع " فتشاءمنا بكم ثانيا، وفي الأول كما تركتم ففي الثاني لا نترككم لكون الشؤم مدركنا بسببكم فقالوا: * (لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم) * وقوله لنرجمنكم يحتمل وجهين أحدهما: لنشتمنكم منا لرجم بالقول وعلى هذا فقوله: * (وليمسنكم) * ترق كأنهم قالوا ولا يكتفي بالشتم، بل يؤدي ذلك إلى الضرب والإيلام الحسي وثانيهما: أن يكون المراد الرجم بالحجارة، وحينئذ فقوله: * (وليمسنكم) * بيان للرجم، يعني ولا يكون الرجم رجما قليلا نرجمكم بحجر وحجرين، بل نديم ذلك عليكم إلى الموت وهو عذاب أليم، ويكون المراد لنرجمنكم وليمسنكم بسبب الرجم عذاب منا أليم، وقد ذكرنا في الأليم أنه بمعنى لمؤلم، والفعيل معنى مفعل قليل، ويحتمل أني قال هو من باب قوله: * (عشية راضية) * (الحاقة: 21) أي ذات رضا، فالعذاب الأليم هو ذو ألم، وحينئذ يكون فعيلا بمعنى فاعل وهو كثير.
* (قالوا طائركم معكم أءن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون) * ثم أجابهم المرسلون بقولهم: * (قالوا طائركم معكم) * أي شؤمكم معكم وهو الكفر. ثم قالوا: * (أئن ذكرتم) * جوابا عن قولهم: * (لنرجمنكم) * يعني أتفعلون بنا ذلك، وإن ذكرتم أي بين لكم الأمر بالمعجز والبرهان * (يل أنتم قوم مسرفون) * حيث تجعلون من يتبرك به كمن