الله تعالى، فإذا كانت الرهبانية الشديد مما يوقع الخلل في ذلك بالطريق الذي بيناه لا جرم وقع النهي عنها. والثاني: وهو أن حاصل ما ذكرتم أن اشتغال النفس بطلب اللذات الحسية يمنعها عن الاستكمال بالسعادات العقلية، وهذا ملسم لكن في حق النفوس الضعيفة، أما النفوس المتسعلية الكاملة فإنها لا يكون استعمالها في الأعمال الحسية مانعا لها من الاستكمال بالسعادات العقلية، فإنا نشاهد النفوس قد تكن ضعيفة بحيث متى اشتغلت بمهم امتنع عليها الاشتغال بمهم آخر، وكلما كانت النفس أقوى كانت هذه الحالة أكمل، وإذا كان كذلك كانت الرهبانية الخالصة دليلا على نوع من الضعف والقصور، وإنما الكمال في الوفاء بالجهتين والاستكمال في الناس. الثالث: وهو أن من استوفى اللذات الحسية، كان غرضه منها الاستعانة بها على استيفاء اللذات العقلية فإن رياضته ومجاهدته أتم من رياضة من أعرض عن للذات الحسية، لأن صرف حصة النفس إلى جانب الطاعة أشق وأشد من الاعراض عن حصة النفس بالكلية، فكان الكمال في هذا أتم. الربع: وهو أن الرهبانية التامة توجب خراب الدنيا وانقطاع الحرث والنسل. وأما ترك الرهبانية مع المواظبة على المعرفة والمحبة والطاعات فإنه يفيد عمارة الدنيا والآخرة، فكانت هذه الحالة أكمل، فهذا جملة الكلام في هذا الوجه. القول الثاني: في تفسير هذه الآية ما ذكره القفال، وهو أنه تعالى قال في أول السورة * (أوفوا بالعقود) * فبين أنه كما لا يجوز استحلال المحرم كذلك لا يجوز تحريم المحلل، وكانت العرب تحرم من الطيبات ما لم يحرمه الله تعالى، وهي البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وقد حكى الله تعالى ذلك في هذه السورة وفي سورة الأنعام، وكانوا يحللون الميتة والدم وغيرهما، فأمر الله تعالى أن لا يحرموا ما أحل الله ولا يحللوا ما حرمه الله تعالى حتى يدخلوا تحت قوله * (ي أيها لذين آمنوا أوفوا بالعقود) * (المائدة: 1). المسألة الثانية: قوله * (لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) * يحتمل وجوها: أحدها: لا تعتقدوا تحريم ما أحل الله تعالى لكم، وثانيها: لا تظهروا باللسان تحريم ما أحله الله لكم، وثالثها: لا تجتنبوا عنها اجتنابا شبيه لاجتناب من المحرمات، فهذه الوجوه الثلاثة محمولة على الاعتقاد والقول والعمل، ورابعها: لا تحرموا على غيركم بالفتوى وخامسها: لا تلتزموا تحريمها بنذر أو يمين، ونظير هذه الآية قوله تعالى: * (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) * (التحريم: 1) وسادسها: أن يخلط المغصوب بالمملوك خلطا لا يمكنه التمييز، وحينئذ يحرم الكل، فذلك الخلط سبب لتحريم ما كن حلالا له، وكذلك القول فيما إذا خلط النجس بالطاهر، والآية محتملة لكل هذه الوجوه، ولا يبعد حملها على الكل والله أعلم.
المسألة الثالثة: قوله * (ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) * (البقرة: 190) فيه وجوه: الأول: أنه تعالى