اعلم أن الله تعالى لما استقصى في المناظرة مع اليهود والنصارى عاد بعده إلى بيان الأحكام وذكر جملة منها. النوع الأول: ما يتعلق بحل المطاعم والمشارب واللذات فقال: * (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) * وفيه مسائل: المسألة الأولى: الطيبات اللذيذات التي تشتهيها النفوس، وتميل إليها القلوب، وفي الآية قولان: الأول: روي أنه صلى الله عليه وسلم وصف يوم القيامة لأصحابه في بيات عثمان بن مظعون وبالغ وأشبع الكلام في الإنذار والتحذير، فعزموا على أن يرفضوا الدنيا ويحرموا على أنفسهم المطاعم الطيبة والمشارب اللذيذة، وأن يصوموا النهار ويقوموا الليل، وأن لا يناموا على الفرش، ويخصوا أنفسهم ويلبسوا المسوح ويسيحوا في الأرض، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقالوا لهم " إني لم أومر بذلك إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر آكل اللحم والدسم وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني " وبهذا الكلام ظهر وجه النظم بين هذه الآية وبين ما قبلها، وذلك لأنه تعالى مدح النصارى بأن منهم قسيسين ورهبانا، وعادتهم الاحتراز عن طيبات الدنيا ولذاتها، فلما مدحهم أوهم ذلك المدح ترغيب المسلمين في مثل تلك الطريقة، فذكر تعالى عقيب هذه الآية إزالة لذلك الوهم، ليظهر للمسلمين أنهم ليسوا مأمورين بذلك. فإن قيل: ما الحكمة في هذا النهي، فإن من المعلوم أن حب الدنيا مستول على الطبع والقلوب، فإذا توسع الإنسان في اللذات والطيبات اشتد ميله إليها وعظمت رغبته فيه، وكلما كانت تلك النعم أكثر وأدوم كان ذلك الميل أقوى وأعظم، وكلما ازداد الميل قوة ورغبة ازداد حرصه في طلب الدنيا واستغراقه في تحصيلها، وذلك يمنعه عن الاستغراق في معرفة الله وفي طاعته ويمنعه عن طلب سعادات الآخرة، وأما إذا أعرض عن لذات الدنيا وطيباتها، فكلم كان ذلك الإعراض أتم وأدوم كان ذلك الميل أضعف والرغبة أقل، وحينئذ تتفرغ النفس لطلب معرفة الله تعالى والاستغراق في خدمته، وإذا كان الأمر كذلك فما الحكمة في نهي الله تعالى عن الرهبانية؟
والجواب: عنه من وجوه: الأول: أن الرهبانية المفرطة والاحتراز التام عن الطيبات واللذات مما يوقع الضعف في الأعضاء الرئيسية التي هي القلب والدماغ، وإذا وقع الضعف فيهما اختلت الفكرة وتشوش العقل. ولا شك أن أكمل السعادات وأعظم القربات إنما هو معرفة