المسألة الثالثة: قوله * (يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا) * يريد النبيين الذين كانوا بعد موسى، وذلك أن الله تعالى بعث في بني إسرائيل ألوفا من الأنبياء ليس معهم كتاب، إنما بعثهم بإقامة التوراة حتى يحدوا حدودها ويقوموا بفرائضها ويحلوا حلالها ويحرموا حرامها. فإن قيل: كل نبي لا بد وأن يكون مسلما، فما الفائدة في قوله * (النبيون الذين أسلموا) *. قلنا فيه وجوه: الأول: المراد بقوله أسلموا) * أي انقادوا لحكم التوراة، فإن من الأنبياء من لم تكن شريعته شريعة التوراة، والذين كانوا منقادين لحكم التوراة هم الذين كانوا من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليهما السلام. الثاني: قال الحسن والزهري وعكرمة وقتادة والسدي: يحتمل أن يكون المراد بالنبيين الذين أسلموا هو محمد عليه الصلاة والسلام، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم حكم على اليهوديين بالرجم، وكان هذا حكم التوراة، وإنما ذكر بلفظ الجمع تعظيما له، كقوله تعالى: * (إن إبراهيم كان أمة) * (النحل: 120) وقوله * (أم يحسدون الناس) * (النساء: 45) وذلك لأنه كان قد اجتمع فيه من خصال الغير ما كان حاصلا لأكثر الأنبياء. الثالث: قال ابن الأنباري: هذا رد على اليهود والنصارى لأن بعضهم كانوا يقولون: الأنبياء كلهم يهود أو نصارى، فقال تعالى: * (يحكم بها النبيون الذين أسلموا) * يعني الأنبياء ما كانوا موصوفين باليهودية والنصرانية، بل كانوا مسلمين لله منقادين لتكاليفه. الرابع: المراد بقوله * (النبيون الذين أسلموا) * يعني الذين كان مقصودهم من الحكم بالتوراة الإيمان والإسلام وإظهار أحكام الله تعالى والانقياد لتكاليفه، والغرض من التنبيه على قبح طريقة هؤلاء اليهود المتأخرين، فإن غرضهم من ادعاء الحكم بالتوراة أخذ الرشوة واستتباع العوام. المسألة الرابعة: قوله * (للذين هادوا) * فيه وجهان: الأول: المعنى أن النبيين إنما يحكمون بالتوراة للذين هادوا، أي لأجلهم وفيما بينهم، والثاني: يجوز أن يكون المعنى على القديم والتأخير على معنى إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون الذين أسلموا.
المسألة الخامسة: أما الربانيون فقد تقدم تفسيره، وأما الأحبار فقال ابن عباس: هم الفقهاء، واختلف أهل اللغة في واحده، قال الفراء: إنما هو " حبر " بكسر الحاء، يقال ذلك للعالم وإنما سمي بهذا الاسم لمكان الحبر الذي يكتب به، وذلك أنه يكون صاحب كتب، وكان أبو عبيدة يقول: حبر بفتح الحاء.
قال الليث: هو حبر وحبر بكسر الحاء وفتحها. وقال الأصمعي: لا أدري أهو الحبر أو الحبر، وأما اشتقاقه فقال قوم: أصله من التحبير وهو التحسين، وفي الحديث " يخرج رجل من النار ذهب حبره وسبره " أي جماله وبهاؤه، والمحبر للشيء المزين، ولما كان العلم أكل أقسام الفضيلة والجمال والمنقبة لا جرم سمي العالم به. وقال آخرون اشتقاقه من