المسألة الثالثة: ظاهر الآية يقتضي: أنهم حلفوا في القيامة على أنهم ما كانوا مشركين، وهذا يقتضي إقدامهم على الكذب يوم القيامة، وللناس فيه قولان: الأول: وهو قول أبي علي الجبائي، والقاضي: أن أهل القيامة لا يجوز إقدامهم على الكذب واحتجا عليه بوجوه: الأول: أن أهل القيامة يعرفون الله تعالى بالاضطرار، إذ لو يعرفون بالاستدلال لصار موقف القيامة دار التكليف، وذلك باطل، وإذا كانوا عارفين بالله على سبيل الاضطرار، وجب أن يكونوا ملجئين إلى أن لا يفعلوا القبيح بمعنى أنهم يعلمون أنهم لو راموا فعل القبيح لمنعهم الله منه لأن مع زوال التكليف لو لم يحصل هذا المعنى لكان ذلك إطلاقهم في فعل القبيح، وأنه لا يجوز، فثبت أن أهل القيامة يعلمون الله بالاضطرار، وثبت أنه متى كان كذلك كانوا ملجئين إلى ترك القبيح، وذلك يقتضي أنه لا يقدم أحد من أهل القيامة على فعل القبيح. فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: إنه لا يجوز منهم فعل القبيح، إذ كانوا عقلاء إلا أنا نقول: لم لا يجوز أن يقال: إنه وقع منهم هذا الكذب لأنهم لما عاينوا أهوال القيامة اضطربت عقولهم، فقالوا: هذا القول الكذب عند اختلال عقولهم، أو يقال: إنهم نسوا كونهم مشركين في الدنيا. والجواب عن الأول: أنه تعالى لا يجوز أن يحشرهم: ويورد عليهم التوبيخ بقوله * (أين شركاؤهم) * (الأنعام: 22) ثم يحكي عنهم ما يجري مجرى الاعتذار مع أنهم غير عقلاء، لأن هذا لا يليق بحكمة الله تعالى، وأيضا فالمكلفون لا بد وأن يكونوا عقلاء يوم القيامة، ليعلموا أنهم بما يعاملهم الله به غير مظلومين. والجواب عن الثاني: أن النسيان: لما كانوا عليه في دار الدنيا مع كمال العقل بعيد لأن العاقل لا يجوز أن ينسى مثل هذه الأحوال، وإن بعد العهد، وإنما يجوز أن ينسى اليسير من الأمور ولولا أن الأمر كذلك لجوزنا أن يكون العاقل قد مارس الولايات العظيمة دهرا طويلا، ومع ذلك فقد نسيه، ومعلوم أن تجويزه يوجب السفسطة. الحجة الثانية: أن القوم الذين أقدموا على ذلك الكذب إما أن يقال: إنهم ما كانوا عقلاء أو كانوا عقلاء، فإن قلنا إنهم ما كانوا عقلاء فهذا باطل لأنه لا يليق بحكمة الله تعالى أن يحكي كلام المجانين في معرض تمهيد العذر، وإن قلنا إنهم كانوا عقلاء فهم يعلمون أن لله تعالى عالم بأحوالهم، مطلع على أفعالهم ويعلمون أن تجويز الكذب على الله محال، وأنهم لا يستفيدون بذلك الكذب إلا زيادة المقت والغضب وإذا كان الأمر كذلك امتنع إقدامهم في مثل هذه الحالة على الكذب.
(١٨٣)