الإلتزامية التي منها البين وغير البين، ومع ذلك فإنا نجد أن البليغ المتفنن في بيانه، قد يسلك لاعتبارات بيانية مسالك الاختصار والإيجاز، أو يرد موارد الإطناب والتطويل، أو يعتمد على الحذف في بعض الأحوال، استنادا إلى قرائن ظاهرة أو خفية، حالية أو مقالية، أو يهمل طريق استنتاج بعض المقدمات، أو يغفل بعض العلل اعتمادا على قرائن تتفاوت الأفهام في إدراكها، ويكون في ذلك جاريا على سنة من الفصاحة ظاهرة، فيغلق كلامه على من لا يعرف الدقائق البيانية. وكم من اللوازم غير البينة، بلى ومن البينة أيضا، ما لا يتنبه لها إلا من راضت البلاغة نفسه، وكيفت ذهنه، وأسست ملكته، فالناس إذا في إدراك ذلك متفاوتو الأفهام.
على أن هذه السنة كانت جارية بين فصحاء العرب، وكانوا يأتون بالكلام على وجوه يحتملها، ومغاز يشير إليها. قال ابن قتيبة في كتابه المعروف ب (مشكلات القرآن) ما نصه: (والخطيب من العرب إذا ارتجل كلاما ني نكاح أو حمالة أو تحضيض أو صلح أو ما أشبه ذلك، لم يأت به من واد واحد، بل يتفنن فيختصر تارة إرادة التخفيف، ويطيل تارة إرادة الإفهام، ويكرر إرادة التوكيد، ويخفي بعض معانيه حتى تغمض على أكثر السامعين، ويكشف بعضها حتى يفهمه بعض الأعجمين، ويشير إلى الشئ، ويكني عن الشئ، وتكون عنايته بالكلام على حسب الحال، وقدر الحفل، وكثرة الحشد، وجلالة المقام، ثم لا يأتي بالكلام كله مهذبا كل التهذيب، ولا مصفى كل التصفية، بل تجده يمزج ويشوب ليدل بالناقص على الوافر، وبالغث على السمين، ولو جعله كله من بحر واحد لبخسه بهاه، وسلبه ماءه. ومثل ذلك الشهاب من القبس يبرزه الشعاع، والكوكبان يقترنان، فينقص التوازن. والسحاب ينتظم بالياقوت والمرجان والعقيق والعقيان، ولا يجعله كله جنسا واحدا من الرفيع، ولا النفيس المصون).
وقد سرت هذه السنة إلى المؤلفين، فترى بعضهم يتحرى البلاغة مع الاختصار في مؤلفه، بحيث يطوي تحت ألفاظ قليلة معاني كثيرة، وبعضهم يبسط ويطيل، وهكذا، حتى احتاج كثير من كتب العلم إلى شروح وهوامش تفتح ما استغلق، وتفصل ما أبهم، بل تجد الخلاف قائما بين الشراح على تأويل عبارة، أو في مؤداها، ولذلك عني بعض المؤلفين بشرح كتبهم أنفسهم، ليدلوا على مقاصدهم.
ومع ذلك قد يعترض عليهم بأن شرحهم بعض الجمل لا ينطبق على مؤداها، وما كان ذلك إلا لاختلاف الأفهام في إدراك ماهية النظم والأسلوب. وإنا نجد عناية العلماء