على الكذب، فكأنه قال: من كذب كان الكذب شرا. قال الشاعر في مثله:
لا تنه عن خلق، وتأتي مثله، * عار عليك إذا فعلت عظيم أي: لا تجمع بين النهي عن خلق، والإتيان بمثله.
المعنى: (ولا تلبسوا) أي: لا تخلطوا (الحق بالباطل) ومعنى لبسهم الحق بالباطل أنهم آمنوا ببعض الكتاب، وكفروا ببعض، لأنهم جحدوا صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فذلك الباطل، وأقروا بغيره مما في الكتاب. وقيل معناه: لا تحرفوا الكلم عن مواضعه، فالتحريف هو الباطل، وتركهم ما في الكتاب على ما هو به هو الحق. وقال ابن عباس: لا تخلطوا الصدق بالكذب. وقيل: الحق: التوراة التي أنزلها الله على موسى، والباطل: ما كتبوه بأيديهم. وقيل: الحق إقرارهم أن محمدا مبعوث إلى غيرهم، والباطل: إنكارهم أن يكون بعث إليهم. وقوله (وتكتموا الحق وأنتم تعلمون) أي: لا تكتموا صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في التوراة، وأنتم تعلمون أنه حق. والخطاب متوجه إلى رؤساء أهل الكتاب، كما وصفهم بأنهم يحرفون الكلم عن مواضعه للتلبيس على أتباعهم. وهذا تقبيح لما يفعلونه أي: يجحدون ما يعلمون، وجحد العالم أعظم من جحد الجاهل. وقيل: معناه وأنتم تعلمون البعث والجزاء. وقيل: معناه وأنتم تعلمون ما أنزل ببني إسرائيل، وما سينزل بمن كذب على الله تعالى. وقيل: معناه وأنتم تعلمون ما نزل ببني إسرائيل من المسخ وغيره.
فإن قيل: كيف يجوز أن يكون هؤلاء عارفين بنبوة محمد، وذلك مبني على معرفة الله، وعندكم أن من عرف الله لا يجوز أن يكفر، وهؤلاء صاروا كفارا، وماتوا على كفرهم؟ قلنا: لا يمتنع أن يكونوا عرفوا الله على وجه لا يستحقون به الثواب، لأن الثواب إنما يستحق بأن ينظروا من الوجه الذي يستحق به الثواب، فإذا نظروا على غير ذلك الوجه، لا يستحقون الثواب. فعلى هذا يجوز أن يكونوا عارفين بالله، والتوراة، وبصفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإن لم يستحقوا الثواب، فلا يمتنع أن يكفروا.
وقال بعض أصحابنا: استحقاقهم الثواب على إيمانهم مشروط بالموافاة، فإذا لم يوافوا بالإيمان، لم يستحقوا الثواب. فعلى هذا يجوز أن يكونوا عارفين، وإن لم يكونوا مستحقين لثواب يبطل بالكفر، والمعتمد الأول.
(وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين (43)).