وإنما عبر عن حب العجل بالتسرب دون الأكل، لأن شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل إلى بواطنها، والطعام يجاوز الأعضاء، ولا يتغلغل فيها، قال الشاعر:
تغلغل حيث لم يبلغ شراب، * ولا حزن، ولم يبلغ سرور وليس المعنى في قوله (وأشربوا) أن غيرهم فعل ذلك بهم، بل هم الفاعلون لذلك كما يقول القائل: أنسيت ذلك، من النسيان، وليس يريد أن غيره فعل ذلك به. ويقال: أوتي فلان علما جما، وإن كان هو المكتسب له. وقوله: (بكفرهم) ليس معناه انهم أشربوا حب العجل جزاء على كفرهم، لأن محبة العجل كفر قبيح، والله سبحانه لا يفعل الكفر في العبد، لا ابتداء ولا جزاء، بل معناه: إنهم كفروا بالله تعالى بما أشربوه من محبة العجل. وقيل: إنما أشرب حب العجل قلوبهم من زينه عندهم، ودعاهم إليه كالسامري، وشياطين الجن والإنس. فقوله: (بكفرهم) معناه: لاعتقادهم التشبيه، وجهلهم بالله تعالى، وتجويزهم العبادة لغيره، اشربوا في قلوبهم حب العجل، لأنهم صاروا إلى ذلك لهذه المعاني التي هي كفر. وقول من قال: فعل الله ذلك بهم عقوبة ومجازاة، غلط فاحش، لأن حب العجل ليس من العقوبة في شئ ولا ضرر فيه. وقوله: (قل بئسما يأمركم به إيمانكم) معناه: قل يا محمد لهؤلاء اليهود: بئس الشئ الذي يأمركم به إيمانكم، إن كان يأمركم بقتل أنبياء الله ورسله، والتكذيب بكتبه وجحد ما جاء من عنده. ومعنى إيمانهم تصديقهم بالذي زعموا أنهم مصدقون به من كتاب الله بقولهم: (نؤمن بما أنزل علينا).
وقوله: (إن كنتم مؤمنين) أي: مصدقين كما زعمتم بالتوراة. وفي هذا نفي عن التوراة أن يكون يأمر بشئ يكرهه الله من أفعالهم، وإعلام بأن الذي يأمرهم بذلك أهواؤهم، ويحملهم عليه آراؤهم.
(قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين (94)).
اللغة: الخالصة: الصافية. يقال: خلص لي هذا الأمر أي: صار لي وحدي، وصفا لي يخلص خلوصا وخالصة مصدر كالعافية. واصل الخلوص:
أن يصفو الشئ من كل شائبة. ودون: يستعمل على ثلاثة أوجه: أن يكون الشئ دون الشئ في المكان، وفي الشرف، وفي الإختصاص، وهو المراد في الآية. والتمني: من جنس الأقوال عند أكثر المتكلمين، وهو أن يقول