تقبل روايته منهم ومن ترد، لم يستطيعوا على كثرة ما بذلوا في هذا البحث من تعب أن يصلوا إلى ما كان ينبغي أن يبلغوه، ولا تم لهم ما أرادوا أن يحققوه، لأن بحثهم قد جرى على قدر وسعهم وإمكانهم الإنساني، ولم يتجاوزوا الظاهر من أحوال الرواة، ولا تثريب عليهم في ذلك، لأن الوقوف على أسرار الرجال وبواطنهم محال بل مستحيل.
وفي ذلك يقول الوزير اليماني في الروض الباسم.
نجد كثيرا من أئمة الجرح والتعديل يترددون في الراوي فيوثقونه مرة ويضعفونه مرة! لأن دخول وهمه في حيز (الكثرة) مما لا يوزن بميزان معلوم وإنما يظن ويرجع فيه إلى التحري والاجتهاد، فصار النظر فيه كنظر الفقهاء في الحوادث الظنية، فلذا يكون لابن معين (1) في الراوي قولان، التوثيق والتضعيف ونحو ذلك - والاحتراز عن الوهم غير ممكن، والعصمة مرتفعة عن العدول، بل العصمة (أي عصمة الرسول) لا تمنع من الوهم إلا في التبليغ (أي تبليغ الوحي) فقد وهم رسول الله أنه صلى بعض الفرائض على الكمال.. فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت (2).
ومن أجل ذلك جاءت كل كتب الحديث تحمل الصحيح وغير الصحيح حتى ما كان موضوعا مكذوبا، ولم يسلم من ذلك كتاب حتى البخاري ومسلم اللذين سموهما بالصحيحين فقد نالهما ضربات قوية من سهام الناقدين.
ولما كانت هذه الكتب قد جاءت بهذه المثابة وأنها قد خلت من الأحاديث المتواترة التي تعطي اليقين بل كل ما فيها أحاديث آحاد التي لا تفيد غير الظن، فإن علماء الأمة من فقهاء وأصوليين وكلاميين لم ويأخذوا بها، ولا تقيدوا بما فيها.
وكذلك علماء النحو، فإنهم لم يجعلوا الحديث مما يستشهدون به على اللغة والنحو بعد ما ثبت عندهم أنه لم يأت صحيح متواترا كما نطق النبي به، وإنما جاءت روايته بالمعنى، ومن حججهم في ذلك حديث زوجتها بما معك (3) فقد جاء بثمان صيغ على حين أنه كلمتان!