كان التدوين في هذا العصر يمزج الحديث بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين ومن بعدهم كما قال ابن حجر، وظل على ذلك إلى تمام المائتين.
وهذا هو الطور الثاني من أطوار التدوين.
التدوين بعد المائتين:
أخذت طريقة تدوين الحديث بعد المائتين صورة أخرى، ذلك أن يفرد حديث النبي خاصة بالتدوين، بعد أن كان مشوبا بغيره مما ليس بحديث، فصنف عبيد الله بن موسى العبسي الكوفي (213) مسندا، وصنف مسدد بن مسرهد البصري (228) مسندا، وصنف الحميدي (219) مسندا وغيرهم.
واقتفى الأئمة بعد ذلك أثرهم كالإمام أحمد (241) وإسحاق بن راهويه (237) وغيرهما، ولئن كانت هذه المسانيد قد أفردت الحديث وحده بالتدوين ولم تخلط به غيره من أقوال الصحابة ولا غيرهم - إنها كانت تجمع بين الصحيح وغير الصحيح. مما كان يحمله سيل الرواية في هذا الزمن من الأحاديث، إذ لم يكن قد عرف إلى هذا العصر تقسيم الحديث إلى ما تعارفوا عليه من صحيح وحسن وضعيف ولذلك كانت هذه المسانيد دون كتب السنن في المرتبة ولا يسوغ الاحتجاج بها مطلقا، وسنتكلم عن هذه المسانيد فيما بعد وعن منزلتها بين كتب الحديث المعروفة.
وقد استمر التدوين على هذا النمط إلى أن ظهرت طبقة البخاري. ومن ثم أخذ صورة أخرى ودخل في دور جديد، هو دور التنقيح والاختيار.
قال الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري:
لما رأى البخاري هذه التصانيف ورواها، وانتشق رياها واستجلى محياها وجدها بحسب الوضع جامعة بين ما يدخل تحت التصحيح والتحسين، والكثير منها يشمله التضعيف (1) فلا يقال لغة سمين، فحرك همته لجمع الحديث الصحيح الذي لا يرتاب فيه أمين، وقوى عزمه على ذلك ما سمعه من أستاذه أمير المؤمنين في الحديث والفقه إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهويه.. قال أبو عبد الله بن إسماعيل البخاري: كنا عند إسحاق بن راهويه فقال: لو جمعتم