ولو أنت تصفحت البخاري ومسلم لما وجدت فيهما حديثا واحدا لأمين هذه الأمة أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح، وليس فيهما كذلك حديث لعتبة ابن غزوان وأبي كبشة مولى رسول الله وكثيرين غيرهم.
والأخبار في ذلك كثيرة لا يمكن استقصاؤها وإليك كلمة صغيرة نختتم بها هذا الفصل. قال ابن القيم: إن الصحابة كانوا يهابون الرواية عن رسول الله ويعظمونها ويقللونها - خوف الزيادة والنقص - ويحدثون بالشئ الذي سمعوه من النبي مرارا.
ولا يصرحون بالسماع ولا يقولون: قال رسول الله (1).
تشديد الصحابة في قبول الأخبار كان الخلفاء الراشدون وكبار الصحابة وأهل الفتيا منهم - كما علمت - يتقون الرواية عن النبي ويهابونها بل كانوا يرغبون عنها، إذ كانوا يعلمون أنهم لا يستطيعون أن يؤدوا كل ما سمعوه عن النبي صلى الله عليه وسلم على وجهه الصحيح لأن الذاكرة لا يمكن أن تضبط كل ما تسع، وما تحفظه مما تسمعه لا يمكن أن يبقى فيها على أصله مهما تحرى الإنسان الضبط، وكذلك لم يأمنوا من يسمع منهم أن يغير فيما سمعه بالزيادة أو النقص أو الغلط أو التبديل أو التحريف أو بغير ذلك، وهم بما عرفوا من أصول الدين وفروعه كاملة عن رسول الله ما كانوا ليرضوا بما رضي به بعضهم ومن جاء بعدهم من رواية الحديث " بالمعنى " لأنهم كانوا يعلمون أن تغيير اللفظ يغير المعنى في الغالب، وكلام الرسول ليس كغيره من الكلام، إذ كل لفظة من كلامه صلى الله عليه وسلم يكمن وراءها معنى خاص يقصده هو (صلى الله عليه وسلم). من أجل ذلك كانوا يتشددون في قبول الأخبار من إخوانهم في الصحبة مهما بلغت درجاتهم، ويحتاطون في ذلك أشد الاحتياط، حتى كان أبو بكر لا يقبل من أحد حديثا إلا بشهادة من غيره على أنه سمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد وضع بعمله هذا أول شروط علم الرواية وهو شرط الإسناد الصحيح. قال الذهبي في ترجمته (2): إنه أول من احتاط في قبول الأخبار.