سابقا أنه لا بد في الوضوء من تصوره ممتازا عما عداه وأن يكون الغرض منه امتثال أمر الله وطلب مرضاته فإذا تصورنا الوضوء بالوجه الممتاز وتصورنا أيضا النفع الحاصل منه من الامتثال وقربه تعالى وانبعث من ذلك إرادة محركة للأعضاء فعلى المقدمة السابقة إنما يصدق على ذلك الوضوء في العرف أنه صادر بالإرادة لغرض الامتثال والقربة وإن ذهلنا في أثنائه عن تصوره والغرض منه ما لم يحدث في الأثناء إرادة محركة للأعضاء للاتيان ببعض أفعاله ناشية من غرض آخر فيلزم أن يكون ذلك الوضوء صحيحا مخرجا عن العهدة لما علمت من عدم لزوم شئ آخر على المكلف سواه فظهر بما ذكرنا إن القدر الواجب إنما هو عدم إرادة مخالفة للإرادة الأولى فيجب أن تفسر الاستدامة الحكمية به واعلم أنه على هذا يرد إشكال على قولهم بوجوب مقارنة النية لأول الوضوء إذ كما يجوز صدور الفعل بالإرادة لغرض منع الذهول في أثنائه عن تصور الفعل والغرض مفصلا فكذلك يمكن صدوره أيضا بالإرادة لغرض منع الذهول عنهما مفصلا في ابتداء الفعل أيضا إذا تصور الفعل والغرض في زمان سابق عليه وصار ذلك باعثا على صدور الفعل في هذا الزمان والضرورة حاكمة أيضا بوقوع هذا الغرض عند ملاحظة حال الافعال فحينئذ يجوز أن يصدر الوضوء لغرض الامتثال والقربة باعتبار تصوره وتصور ذلك الغرض في الزمان السابق فيلزم أن يكون ذلك الوضوء أيضا صحيحا لما عرفت من عدم لزوم شئ على المكلف زايدا على هذا المعنى فيبطل القول المذكور اللهم إلا أن يتمسكوا بالاجماع على وجوب المقارنة لكن الظاهران إثبات الاجماع مشكل إذ لم ينقل من القدماء شئ في أمر النية وثبوت الاجماع من المتأخرين بحيث يظن دخول المعصوم (عليه السلام) فيه مما لا سبيل إليه مع أن المصنف (ره) في الذكرى نقل عن الجعفي أنه قال لا عمل إلا بنية ولا بأس أن تقدمت النية العمل أو كانت معه لكن الأولى الاخذ بما هو المشهور والوقوف عليه احتياطا للدين وبهذا ظهر أيضا وجه ما اخترناه من جواز تقديم النية عند غسل اليدين لان ما يمكن أن يتمسك به على عدم جواز التقديم على الوضوء أما الاجماع أو الشهرة وهما مفقودان في هذا التقديم هذا والقوم إنما ذكروا في تفسير الاستدامة الحكمية معنيين أحدهما ما ذكرنا وهو المذكور في المبسوط والمعتبر والمنتهى واستدل عليه في المعتبر والمنتهى بأن استدامة النية فعلا مما يتعسر أو يتعذر في الأكثر فاقتصر على استدامة الحكم مراعاة لليسر واستحب في المنتهى الاستدامة الفعلية ليقع جميع الأفعال مقترنة بالنية و الأولى في الاستدلال على الاكتفاء بالاستدامة الحكمية ما ذكرناه لان هذا الدليل ربما يعترض عليه بأن عدم إمكان الاستدامة الفعلية لا يستلزم الاكتفاء بالحكمية بل يجب مراعاة الفعلية مهما أمكن فلما لم يمكن سقط وأما عدم مراعاتها بالكلية فلا إلا بدليل وأيضا لا وجه لقولهم إن الاستدامة الفعلية لما لم يمكن اقتصر على الحكمية لان هذا إنما يحسن إذا دل دليل على وجوب الاستدامة الفعلية ولا دليل عليه وما استدلوا به على وجوب النية من قوله (عليه السلام) إنما الأعمال بالنيات ونحوه مما تقدم لا يدل على وجوب الاستدامة الفعلية أصلا كما لا يخفى وثانيهما البقاء على حكم النية والعزم على مقتضاها وهذا هو الذي اختاره المصنف في الذكرى واستدل عليه أيضا بالدليل المذكور آنفا ويرد عليه أيضا الايراد إن المذكور إن أورد أيضا على المعنى الثاني أنه بعينه الاستدامة الفعلية التي نفاها المصنف (ره) بل نفس النية إذ هي عبارة عن العزم المخصوص ويمكن أن يجاب بالفرق بينهما بالاجمال والتفصيل فإن الاستدامة الفعلية هي أن يستحضر النية مفصلة كما هي في الابتداء إلى آخر الفعل والحكمية بهذا المعنى أن يستحضر مجملة وأورد أيضا إن ذلك مقتض لبطلان عبادة الذاهل عن العزم المذكور في أثناء العبادة وهو باطل قطعا ويمكن أن يقال أيضا أن المراد كما عرفت من العزم على مقتضى النية استحضارها وحصولها في النفس مجملة ولا نسلم انه مما ينتفي ما لم يحدث نية وإرادة أخرى منافية للأولى والحاصل إن المعنيين متلازمان لكن القايل بالمعنى الثاني كالمصنف (ره) كأنه زعم أن بعد ما حصل الغفلة عن تصور الفعل والغرض منه تفصيلا فكأنما يبقى في النفس أمرا إجمالي من التفصيل السابق هو المحرك والباعث للفعل إلى أن ينتهي الحركة وإن لم يكن لنا شعور به كما في اللعب باللحية أو نحوه فإن له سببا البتة مع عدم علمنا به ولا يخفى أنه لا دليل على بطلان ما زعمه بل لا يبعد ادعاء الظهور في أن الامر كذلك ثم إن المصنف (ره) ذكر إن بناء التفسيرين على أن الباقي مستغن عن المؤثر أم لا فالتفسير الأول بناء على الأول والثاني على الثاني والظاهر أن مراده (ره) بالباقي ها هنا الوضوء وبالمؤثر النية فيكون حاصل كلامه إن الباقي إن لم يكن محتاجا إلى المؤثر فالوضوء بعد حدوثه بالنية لا يحتاج في بقائه إلى بقاء النية فيكون باقيا إلى وقت حدوث مؤثر آخر بنية أخرى بدون بقاء النية الأولى فعلى هذا تفسير الاستدامة الحكمية بأن لا ينوى نيه مخالفة للأولى إذ على هذا لا جزم ببقاء النية الأولى حتى يفسر الاستدامة به وإن كان محتاجا إلى المؤثر فحينئذ فالجزم ببقاء النية الأولى حاصل فلذا يفسر الاستدامة به واعترض عليه صاحب المدارك بأن هذا البناء غير مستقيم لان أسباب الشرع علامات ومعرفات لا علل حقيقية فيمكن القول بعدم الاستغناء عن المؤثر مع عدم اشتراط الاستدامة فضلا عن الحكمية وأنت خبير بما قدمنا إن النية ليست من الأسباب الشرعية للوضوء حتى يقال أنها من قبيل العلامات والمعرفات بل من الأسباب العقلية فاندفع ما أورده نعم يرد على المصنف أنه خلط الحدوث التدريجي بالبقاء وكأنه لاطلاق البقاء على الحدوث التدريجي أيضا في العرف لكنه ليس المعنى الذي في معرض النزاع فزعم أن بعد حدوث النية يحدث الوضوء ويبقى إلى الاخر وليس كذلك بل إنما يحدث
(٩٣)