(قال): فلما قال لي ذلك تبين في الانكسار وغلبة الغم. فقال لي: ما بلغ بك من الغم فأعلمته أنه بلغ بي ما نغص إلى الحياة وجب لي الموت لعلمي أنه لا راحة لي بغيره. فقال لي إن كنت صادقا فقد دنا فرجك فسألته عما دله على قوله. فقال لي إني وقعت في نكبات أشد هولا مما أنت فيه وكان عاقبتها الفرج فاسمع بحكايتي واتعظ. إعلم ان بطرقة ذلك لم تزل منذ مئين سنين في أهلي يتوارثونها وأن عددهم كان كثيرا فتفانوا ولم يبق منهم غير أبيه وعمه، وكانت البطرقة إلى عمه دون أبيه فأبطأ على أبيه وعمه الولد فبذلا للمتطببين الكثير من الأموال لعلاجهما بما يعالج به المتطببون الرجال والنساء. إلى أن بطل العم ويئس من الانتشار فصرف عنايته إلى معالجة أبى البطريق فعلقت أمي بي فلما علم العم أنها علقت وجه فجمع عدة من الحبالى من ألسنة مختلفة فيها اللسان العربي والرومي والإفرنجي والكردي والصقلبي والخزري فوضعن في داره فلما ولدتني أمي أمر بتصبير أولئك النساء كلهن معي يرضعنني، ثم أمر بتصبير ملاعبيه ومؤدبيه من أجناس النساء اللواتي ربينه. قال البطريق:
فكانوا يعلمونني الكتابة وقراءة كتب دينهم فلم ينقض عليه تسع سنين حتى علم أمر دينهم وقرأ كتبهم وأجابهم عنها، ثم أمر عمه أن يضم إليه جماعة من الفرسان يعلمونه الثقافة والمساواة وجميع ما نعلمه الفرسان ومنعه من سكنى المنازل وأمره أن ينزل في المضارب وأن يمنع من أكل اللحم إلا ما ناله بصيد طائر يحمله على يده، أو صيد كلب يسعى بين يديه، أو صيد بسهمه فكانت تلك حاله حتى استوفى عشر سنين ثم رمى الله عز وجل في عصب عمه فمات وولى البطرقة بعد عمه أبوه. فأمره بالقدوم عليه فقدم ورأي شمائله وفهم أدبه فاشتد عجبه به فتسمح له بما لم تكن ملوك الروم تتسمح به لولاة أمورها وأعتد له مضارب وفساطيط الديباج وضم إليه من الفرسان جماعة كثيفة ووسع على الجميع في كل ما تحتاج إليه ورده إلى سكنى المضارب وأمره بالاستبعاد عن منازل أبيه. قال البطريق: فلما استتمت لي خمس عشرة سنة ركبت يوما لارتياد مكان أكون فيه فبصرت بغدير من ماء طوله ألف ذراع وعرضه ما بين ثلاثمائة ذراع فأمرت بضرب مضاربي على ذلك