الثالث لبطريق الرخان فمر بنا في الشهرين غم طويل نترقب المكروه، ثم انقضى الشهران فحملنا إليه فرأينا على بابه من الجمع على خلاف ما كنا نعاين، ورأينا من رثاجته والغلظة خلاف ما كنا نرى، ثم وصلنا إليه فتبين لنا من فظاظته وغلظته ما أيقنا معه بالهلكة ثم دعا بالحدادين وأمر بتقييد المسلمين بأمثال ما كان يقيدهم غيره (قال): فلم يزل الحديد يجعل في رجل واحد واحد حتى صار الحداد إلى قال: فنظرت في وجه البطريق فوجدته قد نظر إلى بخلاف العين التي كان ينظر بها إلى غيري، ثم كلمني بلسان عربي فسألني عن اسمى وعن نسبي ومسكني مثل ما سألني عن أمير المؤمنين فصدقته عما سألني عنه، ثم قال لي كيف حفظك لكتابكم؟ (قال): فأعلمته أنى حافظ له. فقال:
اقرأ آل عمران. فقرأت عليه منها نحو خمسين آية. فقال: إنك لقارئ فصيح، ثم سألني عن روايتي للعشر فأعلمته أنى راوية فاستنشدني لجماعة من الشعراء فأنشدته فقال: إنك لحسن الرواية ثم قال لخليفته قد وثقت بهذا الرجل فلا تحدده، ثم قال: وليس من الانصاف أن أسوءه في أصحابه ففك عن جماعته وأحسن مثواهم، ولا تقصر في قراهم ثم دعا صاحب مطبخه فقال لست أطعم طعاما ما دام هذا العربي عندي إلا معه فاحذر أن يدخل المطبخ مالا يحل للمسلمين أكله، واحذر أن تجعل الخمر في شئ من طبيخك، ثم دعا بمائدته واستدناني حتى قعدت إلى جانبه فقلت له: فدتك نفسي وبأبي أنت أحب أن تخبرني من أي العرب أنت؟ فضحك. ثم قال: لست أعرف لمسألتك جوابا لأني لست عربيا فأجيبك عن سؤالك. فقلت له: مع هذه الفصاحة بالعربية. فقال: إن كان باللسان تنقل الأنساب من جنس إلى جنس فأنت إذا رومي، فان فصاحتك بلسان الروم ليست بدون فصاحتي بلسان العرب فعلى قياس قولك يجب أن تكون روميا وأكون عربيا.
(قال): فصدقت قوله وأقمت عنده خمسة عشر يوما لم أكن منذ خلقت في نعمة أكثر منها فلما كانت ليلة ستة عشر، فكرت في أنه قد مضى نصف الشهر وإن الأيام تقربني من الانتقال إلى غيره فبت مغموما وصار إلى