رسوله يدعوني لحضور طعامه فلما جعل الطعام بين أيدينا رأى أكلي مقصرا عما كان يعهده، فضحك ثم قال أحسبك يا عربي لما مضى النصف من شهرك فكرت في أن الأيام تقربك من الانتقال عنى إلى غيري فلا يعاملك مثل معاملتي ولا يكون عيشك معه مثل عيشك معي، فسهرت واعتراك لذلك غم ثم غير طبعك، فأعلمته أنه قد صدق. فقال: ما أنا إن لم أحسن الاختيار لصديقي بحر. كل فقد آمنك الله مما حذرت، ولم أبت في اليوم الذي رمقتك فيه حتى سألت الملك أن يصيرك عندي ما دمت في أرض الروم فلست تنتقل عن يدي ولا تخرج منها إلا إلى بلدك فإني أرجو أن يسبب الله عز وجل ذلك على يدي. قال: فطابت نفسي ولم أزل مقيما عنده إلى أن انقضى الشهر وضرب بالقداح، وخرج لبطارقة غير البطريق الذي نحن عنده وتحول إليه أصحابي وبقيت وحدي وتغديت في ذلك اليوم مع البطريق. وكان من عادتي أن أنصرف من عنده بعد غدائي إلى إخواني المسلمين فنتحدث ونأنس، ونقرأ القرآن، ونجمع الصلوات، ونتذاكر الفرائض ويسمع بعضنا بعضا ما حفظ من العلم وغيره. قال: فانصرفت ذلك اليوم إلى الموضع الذي كنت أجتمع فيه مع المسلمين فلم أر أحدا منهم فضاق صدري ضيقا تمنيت أن أكون مع أصحابي، وبت بليلة صعبة لم أطبق فيها بين أجفاني فأصبحت أكثف خلق الله عز وجل بالا، وأسوأهم حالا، وصار إلى رسول البطريق في وقت الغداء فلما صرت إليه تبين الغم في وجهي ومددت يدي إلى الطعام فرأى مد يدي إليه خلاف عادتي. فضحك ثم قال: أحسبك اغتممت لفراق أصحابك فأعلمته أن قد صدق، وسألته هل عنده حيلة في ردهم إلى يده. فقال: إن الملك لم يرد بتنقل أصحابك من يد إلى يد غيري إلا ليغمهم بما يفعل، ومن المحال أن يدع تدبيرهم في الاضرار بهم لميلي إليك ومحبتي لك، وما عندي في هذا الباب حيلة. فسألته أن يسأل الملك إخراجي عن يده وضمي إلى أصحابي لاكون معهم حيث كانوا. فقال: ولا في هذه أيضا حيلة لأني لا أستجيز أن أنقلك من سعة إلى ضيق، ومن كرامة إلى هوان، ومن نعمة إلى شقاء،
(١٤٧)