والعجم، وتداخلت اللغات، وأهجنت الألسن، فأرفض نظام العربية، وأشكلت مناهجها، والتبست مقاصدها، وكتمت أسرارها، وتعاصى عرفانها وانفت دررها من سوم الفحام، ونفرت أوانسها من غرائب الطبائع، وعزفت من هجائن القرائح، وإذ علم المسلمون وغيرهم بالعلم اليقين أن القرآن الكريم الذي هو أساس الدين، ومنار الهدى، ومناط الحجة، وأنموذج الاعجاز، قد استولى من العربية على أفلاذ كبدها، وفرائد لئالئها، ومفاتح كنوزها، فلا يوصل إليه إلا من سبيلها، ولا تقرع بابه إلا بيدها، فلأجل ذلك نهض للتدرب فيها، وللإلتقاط من سقط مائدتها، والمص من وشلها فئة من الأجانب عنها، والمتطفلين في معرفتها، فلم يدركوا من كلام العرب شيئا إلا بطفيف النقل، ولم يقرعوا منه أبواب أسرارها إلا بالتظني، فأسسوا من بسيطها قواعد يتوكؤون عليها في ترعرعهم فيها، وقد فاتهم منها يتائم درر لم تنتظمها قواعدهم، ووقف دونها جدهم، فلا يحظى ببعضها إلا الغائص المتعمق، والقانص المترصد، إذا أسعد جدهما حسن الفطنة، وصفاء القريحة وتوقد الذكاء، ومجانبة التقليد.
ثم إن الناس إذ ذاك على اختلافهم في البضاعة والإضاعة توجهوا بقواعدهم المذكورة إلى اكتشاف أسرار القرآن الكريم، وفهم نكاته في مقاصده التي جرى فيها على النحو الأرفع من مراقي البلاغة وفذلكات العربية فاختلف في ذلك وردهم وصدرهم، وقاموا وقعدوا، وترددوا بين صواب وخطأ، وسداد ووهن، ووجدوا في القرآن الكريم موارد قد ذيدت عنها قواعدهم، أو قصرت عنها منقولاتهم، أو عشت عنها أفهامهم، فتفاوضوا فيها تفاوض الحيران، ولا جرم فما كل زاد مبلغ، ولا كل ظهر موصل ولا كل عدة تجدي، ولا كل من سار وصل، ولا كل من استنجع ورد، ولا كل من طلب أدرك، ولا كل من سمع وعى.
والمتعرب قد نكصت به العصبية في قهقرة جعل وصار يطالب جلالة القرآن الكريم بالقواعد التي لأجل فهمه لفقها المولدون بعد اللتيا واللتي من وشل كلام العرب البسيط، ونزر شعرهم الساذج، وبعد تعثر الأفهام